عندما نشر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تقريرا صادما بعنوان “شباب لا يشتغلون، ليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين”، مستندا في ذلك على معطيات المندوبية السامية للتخطيط، ثارت ثائرة رئيس الحكومة، وخرج الرجل منتفضا في وجه المؤسسة وكأنها أتت جرما لا يغتفر بتحذيرها الفاعل الحكومي من قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة.
تحت قبة البرلمان، بدا رئيس الحكومة وكأنه يخاطب أحد أحزاب المعارضة أو إحدى الجمعيات الحقوقية “المتآمرة” على صورة الحكومة بهدف زعزعة ثقة المواطنين فيها، رغم أن الأمر يتعلق بمؤسسة دستورية يعين رئيسها من طرف الملك، ومهمتها الرئيسية هي التنبيه والاستشارة وتقديم الآراء حول ما يجري في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.. لا أن تظل “تابعة جيلالة بالنافخ”.
لقد شكك أخنوش في ظرفية إصدار هذا الرأي، وقال أمام البرلمانيين: “أتمنى أن تكون ظرفية طرح هذا التقرير عادية ولا تتزامن مع تقديم الحصيلة المرحلية للحكومة، وإلا سيكون ذلك إشكالية تطرح في المؤسسات الدستورية”، معتبرا أن حزبه سبق أن تطرق لهذا الموضوع في برنامج “مسار الثقة”، وبأن “الجديد ليس هو الحديث عنه بل هو تقديم الحلول”، لافتا إلى أن الحلول التي جاء بها المجلس الاقتصادي غير مقنعة ولا يمكن للحكومة أن تطبقها.
أخنوش كاد يقول للشامي “باراكا ماتحك على الضبرة”، لكنه لم يكن يتصور أن دق ناقوس الخطر في تلك اللحظة والتحذيرات التي حملها تقرير مجلس الشامي، ستنفجر في وجه الحكومة يوم أحد أسود لتضع حصيلتها وحصيلة كل الحكومات السابقة في مجالات الشباب والطفولة والتعليم والشغل تحت المجهر، وتفتح الباب أمام تساؤلات مقلقة بشأن ما دفع أزيد من 3000 شخص (قاصرين وشباب) للاستجابة لنداءات مجهولة من أجل ركوب المجهول.
لن نكون سوداويين لندعي بأن هذه الموجة سببها الفقر والبطالة وانعدام فرص الترقي الاجتماعي فقط، حتى وإن كان جزء كبير من هذه العوامل حاضرا أو محفزا على الأقل لخلق الإحساس بانعدام الثقة في المستقبل، لكن الأخطر من كل هذا وذاك هو الرغبة التي تسكن فئة من المغاربة –حتى وإن كان عددهم 3000 أو أقل- من أجل الهروب، أو كما يقول البعض: “اللخر يطفي الضو”، وهذا هو جوهر المشكل وأخطر ما في الأمر.
الهجرة في حد ذاتها ليست جريمة إن كانت وفق القانون، وليست سُبة في حق أي بلد حتى نخجل من وجود رغبة في الهجرة لدى أبنائنا.. فعدد الفرنسيين المقيمين خارج البلاد يتجاوز 2.5 مليون نسمة، والإسبان حوالي 3 ملايين، والأمريكيين حوالي 5 ملايين.. وهذه فقط نماذج، وإلا فإننا إذا طالعنا أرقام دول أخرى فسنجد أن الهجرة حاضرة بقوة.. فبقدر ما تستقبل الدول المتقدمة من مهاجرين، فإنها أيضا تصدر الهجرة… لأن الإنسان بطبعه يميل إلى التنقل والبحث عن حياة أفضل..أو كما يقول المغاربة “تبدال المنازل راحة”.. والمغرب لا يصدر فقط المهاجرين “السريين”، بل لديه مئات الآلاف من الكفاءات التي تدخل أوروبا وغيرها على “البساط الأحمر”، وساهمت بخبرتها في صنع مجد عدد من الدول المتقدمة.
كل ما في الأمر أن نظام التنقل العالمي أصبح يقوم على أسس تمييزية.. إذ يمكن لأي مواطن أوروبي مثلا أن يدخل المغرب بسهولة، بينما على المغربي أن يثبت بلائحة طويلة من الوثائق أنه مجرد سائح أو طالب علم أو مريض يبحث عن العلاج وسيعود أدراجه بعد حين.. وقد يجد نفسه ضحية نصب من طرف المتحكمين في التأشيرة، يأخذون أمواله ويجيبونه برفض الطلب.
لذلك فإن أسوأ ما وقع في الفنيدق ليس هو محاولة الهجرة، حتى وإن كانت المشاهد مؤلمة وغير مقبولة.. بل إن أسوا ما وقع وانفضح هو هذا الإحساس والرغبة في “الهروب” التي تنتشر بين فئة من أبناء الوطن الذين يحملون شعار “مابقا مايدار فهاد البلاد”.. فالمؤلم في الحكاية كلها هو أولئك الشباب الذين يريدون المغادرة بأي ثمن حتى لو كلفهم ذلك تقديم حياتهم قربانا لوهم “الفردوس الأوروبي”.. أسوأ ما في الحكاية هو ما قاله الطاهر بنجلون في رواية “Partir”.. لأن الذين يرحلون لا يفكرون في العودة.. وحتى نجعلهم يفكرون في ذلك قبل ركوب المجهول والانخراط في مغامرات غير محسوبة العواقب، هناك مسار طويل من العمل الجاد لبلورة سياسات عمومية تضع المدرسة والثقة وحس المواطنة على رأس الأولويات.. لأن مستقبل المغرب وتطوره لن يتحقق إلا على يد أبنائه، كانوا هنا.. أو هناك.
أخنوش، الشامي.. وأحداث الفنيدق
بواسطة نــيـشـــان