قال القدماء والحكماء وأصحاب الحنكة بالتجربة بأن “ما بني على باطل، فهو باطل”. قرر حميد شباط، أمين حزب الاستقلال السابق، ولا ندري كيف قرر ولماذا، أن ينسحب من حكومة كان يدبرها إلى جانب حزب العدالة والتنمية. وانفرط عقد حلفاء شباط داخل الأسرة الاستقلالية وانتهى مؤتمر بمعركة الصحون، غير الضارة، بوصول قيادة جديدة، توشك أن تصبح قديمة، تدبر أمر حزب كبير لن تنال منه عاديات الزمن الانتخابي ما نالت من إخوان بن كيران من جراء دهاء أكبر من شاركه في الحكومة. أعطى بن كيران كل شيء لأخنوش ولأصدقائه وتحولوا إلى أشد من اطاحوا به وبحزبه. ولأن التاريخ يعيد نفسه، فلقد عاد حزب تجمع الأحرار لعادته القديمة في تهديد محالفيه. وهكذا يعاد إنتاج قواعد ممارسة أحزاب ” الإدارة ” للسياسة. ويظل الأهم في الموضوع السياسي هو تعويم قيمة الممارسة في سوق تجارة وعقار ومراكمة للمال بكل الأشكال. ويجب ترديد ما قاله عالم التاريخ ومؤسسي علم الاجتماع والتعمير، الفقيه والعارف بشؤون الدنيا، ابن خلدون، أن فساد السياسة سببه اختلاطها بممارسة التجارة. ويصبح فساد التجارة والسياسة في ارتباطهما وتشابك السلطة بالمال في علاقاتها.
تظهر كافة الصور التي تبثها مختلف آليات التدبير الحكومي أن البلاد ليست في أيدي أمينة حكوميا وبرلمانيا، وحتى داخل الجماعات الترابية. تكثفت مكونات الخطاب ” السياسي ” لدى الأغلبية لتؤكد أن اللعبة الانتخابية بدأت مبكرا وبشكل يؤكد عمق وحقيقة الأغلبية المسيطرة حاليا، والتي لا تجمعها سوى أدوات توزيع المناصب وتحقيق المكاسب. ووجب التأكيد أن انفراط عقد هذه الأغلبية منفرط لا محالة.
قال رئيس مجلس النواب “الخالد في منصب كبير” وهو العلمي التطواني، والمطالب بتسوية وضعيته الضريبية منذ سنين، أن حزب رئيسه اخنوش سيظل مسيطرا على الأغلبية إلى غاية 2032. اجابه الوزير، صاحب الحقائب المتعددة والقيادي الحامل ” للتراكتور” كشعار وليس كقدرة على حمل الأثقال، أن حزبه قادر على المواجهة وأن الرد سيكون قويا إذا فتحت المعركة على مصراعيها. سكت حزب الاستقلال، وهذا يحسب عليه، رغم تاريخه وما يحمل من ثقافة سياسية، لا تسمح له مبدئيا، بالاصطفاف مع ” أحزاب ” لن تستطيع أبدأ بالقبول بها كفاعلة سياسية تحمل “علامة صنع في الإدارة “، كما صنعت أحزاب منذ 1963. ما تم صنعه في حاضنة داخل ماكينة إدارية سيظل مفتقدا للمشروعية مدى الحياة. وهكذا تهاوت كل آليات الحضور والغياب بعد تراجع حضور ” شخصيات ” تم تكليفها بقيادة مركبات دستورية وأخرى باسم الأحرار وقبلها باسم جبهة للدفاع عن المؤسسات الدستورية.
تم إخلاء الساحة السياسية بكثير من الدهاء ولم يصل هذا المستوى إلى شيء من الذكاء. غاب عن الوجود أولئك الذين كانوا يحاورون الدولة بكثير من المسؤولية التاريخية، ولا يختارون نهج أساليب انتهازية تعكس مستوى ضعفهم، ولم تكن لهم تجارة يحمونها من داخل احزابهم، أو موقعا في دنيا المال والأعمال. بدأ الخصام من أجل السيطرة على القرار وتحصين مواقع وحماية من يمول الحزب في صيغته القبلية والطائفية والطبقية والجهوية والعنصرية. دخلت بلادنا معتركا سياسويا قد يضعف موقعها الجيواستراتيجي ويجعلها عرضة لخطاب يمس من حصانتها التاريخية.
يستحق المواطنون المغاربة طبقة سياسية أحسن وأكبر بكثير من هذه الفئة التي توجد في وعلى رأس مؤسسات البلاد. ولا يمكن أن نتخلص من عاهات هذه النخبة ما دام نهج صنعها هو تبخيس العمل السياسي وتمكين الوصوليين من مراكز القرار. ولنا في ضعف الكفاءات داخل البرلمان والحكومة ذلك البرهان الكبير على أننا نعيش أسوأ مراحل تدبير السياسة والشأن العام ببلادنا. فضحت كل معطيات تدبير الشأن العام ما يتستر عليه جهابذة الخطاب السياسي. أظهرت تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب والمجلس الاقتصادي والإجتماعي والبيئي ومجلس محاربة الرشوة أننا نعيش تراجعا رهيبا في مجال التدبير العمومي. ولا زال تضارب المصالح يلقي بظلاله على تدبير الاقتصاد. ولا زالت أساليب التعبير السياسي تهين المواطن بشكل يومي. أصبح استهجان الممارسة السياسية يسكن المواطن والنخبة وحتى ذلك الكائن الانتخابي الذي يبيع صوته لأنه لا يؤمن بفعل التصويت في واقع مغربي يستعصي على التغيير والإصلاح. حين يكفر المثقف والإطار العلمي والاقتصادي وكثير من الكفاءات بالعمل السياسي، وحين تدخل كائنات غريبة إلى البرلمان ومجالس المدن والأقاليم والجهات بمباركة سياسية، فلنعلم جميعا أننا نخلف موعدا مع المستقبل الذي يضمن كرامة الوطن والمواطن.
وسيستمر ملئ مقاعد المجالس الترابية والبرلمانية بالأخ، والأخت، والابن، والبنت، وزوجة الابن، وزوج البنت، وغيرهم من ذوي القربى من غير المساكين وأبناء السبيل والمناضلين والمناضلات. أحب المسرح كفن راق وذو حمولة ثقافية عميقة المعاني، لكني أكره كل من يعتلي مسرح السياسي ليمتهن الكذب السياسي ويغتني دون سبب. ولن نصل إلى مستوى النمو المتقدم إذا ظلت مؤسساتنا لا توقف نزيف الثقة في وجودها وقدرتها على الفعل والتغيير. وسيظل سؤال “أين الثروة” حاضرا في قلب تضارب المصالح.
الكوميديا الانتخابية ولعبة التحالفات.. خصام تراكتور وحمامة وميزان
