بعد أن فقدت أنيابها وصارت مدمنة على التوافقات والقبول بما يسقط عن طاولة الحكومة، استيقظت النقابات المغربية التي يتحكم فيها شيوخ ومتقاعدون على وقع صفعة تمرير مشروع قانون الإضراب، لتعلن عن قرار إضراب عام وطني.
جميع المؤشرات تسير في اتجاه أن هذا الإضراب العام، الذي يأتي بعد سنوات تآكلت فيها شرعية النقابات، سيكون نسخة باهتة لإضراب 24 فبراير 2016، الذي انتهى بحرب أرقام وتصريحات بين الحكومة التي أكدت على لسان وزير الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة آنذاك، والذي لم يكن سوى محمد مبديع القابع حاليًا في سجن عكاشة، أنه “مر في ظروف عادية وعرف اشتغال المرافق العمومية بطريقة طبيعية”، وبين النقابات التي أعلنت النصر، وأكدت أن الإضراب نجح بنسبة 84 في المائة.
التصريحات المتباينة والمتناقضة بين الطرفين وأسلوب الخطاب المستعمل يكشف بشكل واضح أن الإضراب العام بالمغرب تغيرت أهدافه، تمامًا كما تغير تعاطي الدولة والحكومة معه. فالنقابات التي ترددت كثيرًا قبل إعلان الإضراب العام، تعاطت مع القرار كمعركة وجود وبقاء تحت شعار “نكون أو لا نكون”، ورفعت سقف المطالب كنوع من الدعاية، رغم علمها أن تاريخ صلاحية الحكومة شارف على الانتهاء، وأن الانتخابات التشريعية على الأبواب، وأن الزمن المتبقي لن يكون كافيًا لانتزاع مكاسب أو إجبارها على التراجع.
أما الحكومة، فلم تنظر إلى الإضراب على أنه ورقة حمراء تتضمن رسالة احتجاج شديدة اللهجة، أو خطوة تصعيدية تترجم سخط الموظفين والعاملين بالقطاع الخاص على قراراتها السابقة واللاحقة، ولا سيما تلك المتعلقة بمشروع قانون الإضراب أو ما تخطط له في صناديق التقاعد. الحكومة تصرفت وكأن الإضراب زوبعة في فنجان، لذا لم توجه أي دعوة رسمية للمركزيات الأربع من أجل الحوار، وأدارت ظهرها لتداعياته الخطيرة على السلم الاجتماعي في ظل استمرار نفس الأجواء التي عبدت الطريق لإعلانه. بل لن تجد حرجًا في استعمال لغة تحمل الكثير من التحدي، بكون الإضراب لم يؤثر على سير الخدمات والمصالح الحيوية وأنه “غير مبرر” في خطاب حزبي أكثر منه حكومي.
لعبة الربح والخسارة التي تصرفت بها الحكومة والنقابات مع الإضراب العام تعكس نوعًا من القصور السياسي في التعامل مع قرار حساس له انعكاسات كارثية على الجاذبية الاستثمارية للبلد، بحكم أنه يرسم علامات مقلقة حول مستقبل السلم الاجتماعي في ظل تراكم الملفات المطلبية، واتساع رقعة الاحتجاجات والإضرابات القطاعية.
فالنقابات رأت في قرار الإضراب العام بارقة أمل تنقذها من ورطة علامات الاستفهام الكثيرة التي بدأت تطرح حول فقدانها لدورها في الشارع، وفي تأطير المطالب العمالية والقطاعية مع تصاعد نجم التنسيقيات المستقلة. وبالتالي، فإن الأهم والنصر الكبير بالنسبة لها يتمثل في إقناع شريحة مهمة بخوض الإضراب، دون الالتفات إلى ثماره اللاحقة، والتي ليست مدرجة فعليًا ضمن الأمد الزمني القصير. فيما راهنت الحكومة على نسبة مشاركة ضعيفة ومتدنية من أجل عكسها كعامل تأييد لسياساتها غير الشعبية، التي بدأت تلقى ردود فعل ساخطة حتى من قبل بعض حلفائها، كما ورد في التصريحات الأخيرة لنزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال.
الإضراب العام يتزامن مع تهرب الحكومة من كشف سيناريو رفع سن التقاعد، رغم أنها وعدت بالإعلان عنه قبل نهاية شهر يناير الماضي، وبالتالي فالحكومة تدرك بأن بعض القرارات والإصلاحات التي تسعى لتفعيلها من خلال رفع فزاعة الإفلاس الوشيك أصبح ينظر إليها شعبيًا على أنها مد يد في حالة تلبس لجيوب المغاربة من أجل إنقاذ صناديق ومؤسسات لا يتحملون أي مسؤولية في وضعيتها المالية الكارثية التي جعلتها تعاني من ثقوب وعجز بالملايير دون أن يتم تفعيل المحاسبة في حق المتورطين في هذه الاختلالات. نفس السيناريو حدث بالنسبة للمكتب الوطني للكهرباء والسكك الحديدية قبل أن يحين الدور على صناديق التقاعد، علمًا أن بعض هذه القرارات تتجاوز المنطق الحزبي أو الحكومي بحكم أنها ترهن مستقبل وحياة المغاربة، وتفرض عليهم تحت يافطة الإصلاح أن يدفعوا الثمن، ويواصلوا العمل بشكل إجباري لسنوات إضافية وهم يجرون وراءهم أمراضهم المزمنة.
ويبقى الشيء الأكيد أن طريقة تعاطي المغاربة مع قرار الإضراب العام تعكس حالة إحباط فعلي من السياسة والسياسيين، بعد أن فشلت النقابات في انتزاع عدد من الحقوق، وتحولت وعود التغيير التي حملت عددًا من الأحزاب ذات التوجهات المتباينة للحكم في سياقات مختلفة إلى فقاعة صابون، ورحلة استهلكت الكثير من الوقت والزمن دون أن يلمس المواطن أي تغيير حقيقي يساير الشعارات العريضة التي رفعت.
هذا الإحباط الحاصل لدى شريحة مهمة من المغاربة هو ما جعل السلطات تتعامل مع قرار الإضراب العام بنوع من الارتياح النسبي دون توجس من حدوث انفلات أو أعمال شغب قد تعود بالمغرب إلى سنوات الإضرابات العامة الدامية، وكأن السلطة كانت تملك بشكل مسبق جهاز “ترمومتر” لقياس نبض الشارع.