بالصدفة، على ما يبدو، ومن دون سابق ترتيبات أعلنت الرئاسة الجزائرية في بيان لها، يوم الأحد الماضي (3 مارس 2024)، بأن الرئيس عبد المجيد تبون، ونظيره التونسي قيس سعيد، رفقة رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد يونس المنفي، عقدوا لقاء ثلاثيا لاستعراض مخرجات القمة السابعة لرؤساء دول وحكومات منتدى البلدان المصدرة للغاز، وهي القمة التي احتضنتها الجزائر في ذات اليوم، وكانت هي سبب زيارة الرئيس التونسي ورئيس المجلس الرئاسي الليبي لجارتهم الجزائر.
ولكن الرئاسة الجزائرية لم تقتصر على التطرق إلى مخرجات قمة البدان المصدرة للغاز، بل كشفت أيضا أن الرئيس “تبون” تدارس في لقاء منفرد مع نظيريه التونسي والليبي، الأوضاعَ السائدة في المنطقة المغاربية، وخلص اللقاء إلى “ضرورة تكثيف الجهود وتوحيدها لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية بما يعود على شعوب البلدان الثلاثة بالإيجاب”، بل وتقرّر في ذات الاجتماع “عقد لقاء قمّة مغاربي ثلاثي على مستوى الرؤساء كلّ 3 أشهر “لتنسيق أُطر الشراكة والتعاون”، على أن يكون الأول في تونس بعد شهر رمضان المبارك.
هذه “القمة المغاربية” المعلن عنها من طرف الرئاسة الجزائرية، التي لم يتحدث عنها أحد من قبل لا في الجزائر العاصمة ولا في تونس أو طرابلس، أثارت الكثير من علامات الاستفهام والاستغراب لدى المراقبين، عن خلفيات هذا “الاتحاد المغاربي” الجديد، وما إذا كانت هناك ضرورة للدعوة إليه، لاسيما أن الإعلان عنه جاء بصيغة أنه إطار إقليمي بين ثلاث دول يلتئم قادتها كل ثلاثة أشهر، ما يعني أنه أكثر من مجرد منتديات أو مؤتمرات أو تحالفات قطاعية مقتصرة على مجالات معينة، ويتعدى ذلك إلى اجتماعات دورية بين رؤساء دول تتدارس سبل “الشراكة والتعاون”، وهو ما يعني بالنتيجة أنه إن لم يكن إطارا تابعا للإطار الإقليمي الذي يجمع الدول المغاربية الخمسة -وهذا ما لا يبدو كذلك على الأقل من حيث تجاهل البيان الرئاسي الإشارة إلى “الاتحاد المغاربي”- فإن إماطة اللثام عن هذا التجمع المغاربي الجديد، وفي هذه الظرفية، يعتبر إشارة صريحة إلى رغبة لدى البعض في تجاوز أو دق آخر مسمار في نعش الاتحاد المغاربي، الذي يعرف جمودا منذ سنوات طويلة بسبب الأزمة المتفاقمة بين المغرب والجزائر!
وإذا كان من باب الصّدفة الإعلان عن هذا “المولود المغاربي الإقليمي” الجديد، فإنه من الصّدف الغريبة جدا أن يتزامن هذا مع ذكرى تأسيس “اتحاد المغرب العربي”، الذي احتفل قبل أيام فقط بسنته الـ35، حيث كان التأسيس في مدينة مراكش في 17 فبراير 1989، وهو ما قد يجيب عن كثير من الاستفهامات.
وما قد يساعد أيضا على الإجابة عن الأسئلة العالقة حول هذا الإعلان المثير، وحتى تكتمل الصورة أكثر، فلابأس من الرجوع قليلا سنتين إلى الوراء، وتحديدا إلى أواخر فبراير 2021، ويا للصدفة -مرة أخرى- حيث فاجأ زعيم حزب حركة النهضة (الإسلامي) التونسي، راشد الغنوشي، وقد كان حينئذ يترأس البرلمان التونسي، بتصريحات من العاصمة الجزائرية -ويا للصدفة أيضا- الرأي العام المغاربي بدعوته إلى “اتحاد مغاربي” -هكذا- يضم كلا من الجزائر وتونس وليبيا، وهو ما جوبه برفض واسع من طرف الكثير من المراقبين، الذين اعتبروا دعوة “الزعيم الإسلامي”، دعوة للتفرقة وإذكاء النعرات بين دول جمعها تاريخ مشترك على مدى العصور، وأن إقصاء البلد المؤسس لاتحاد المغرب العربي (المغرب) ومعه موريتانيا، من “الاتحاد” الذي نادى به الغنوشي، يعتبر معاكسا تماما ليس فقط لمصلحة شعوب المنطقة، ولكن حتى لمنطق الأحداث والتاريخ، الذي يرقى إلى مستوى السرقة الموصوفة والتدليس، بتحييد واستثناء البلد الذي يسمى باسم الاتحاد (المغرب) من هذا الإطار المزمع إنشاؤه.
وإذا كانت دعوة الغنوشي في 2021 لقيت شجبا ورفضا واسعين، اضطرا الرجل إلى محاولته تبرير خرجته تلك بأنها محاولة لإنعاش “الاتحاد المغاربي” الأصلي، الذي يعاني الجمود، وهي الدعوة التي كانت بمثابة صرخة في واد سرعان ما اختفت بعدما فسرها البعض بأنها محاولة للغنوشي للخروج من الضغط الذي كان يعانيه في الساحة التونسية، وتودّداً للنظام الجزائري لكسب دعمه، فإن إعلان الرئاسة الجزائرية يوم الأحد الماضي، يكشف بأن دعوة الغنوشي كرئيس حزب لم تكن من بنات أفكاره، وقد كانت بدافعِ دافعٍ لجس النبض، قبل أن يتبنى “المشروع” رئيس دولة لا تخفي استهدافها المغرب، بينما نواكشوط لم تقبل هذه اللعبة وحاولت النأي بنفسها.
ويبدو أن النظام الجزائري، الذي يعاني عزلة إقليمية ودولية غير مسبوقة، منذ مجيء الثنائي قائد الجيش سعيد شنقريحة والرئيس عبدالمجيد تبون، إلى قصر المرادية، وفي سياق سعيه لفك الطوق من حوله وتصديره إلى من يسميه “العدو الكلاسيكي” وهو المغرب، ومنافسة هذا الأخير في تحركاته الإقليمية على مستوى خلق تحالفات، لم يجد من بد غير محاولته لعب ورقة الاستقطاب الإقليمي؛ بعدما أعلن عن عزم الجزائر خلق “مناطق تجارية حرة” مع كل من موريتانيا وتونس وليبيا ودول جوار أخرى، وهو ما بدأته بتدشين طريق حدودية مع نواكشوط.
اليوم حكام الجزائر يعبرون اليوم عمليا بأنهم ضد استمرار وجود “الاتحاد المغاربي” الذي يتخذ من الرباط مقرا له، وهو ما بدأت معالمه تظهر منذ أبريل 2023، عندما شنت الجزائر، سياسيا وإعلاميا، هجوما شرسا على “الاتحاد” وعلى أمينه العام شخصيا الطيب بكوش، بعد تعيين الدبلوماسية المغربية أمينة سلمان ممثلة “للاتحاد المغاربي” لدى الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، حينها كشف بكوش أن الجزائر سحبت كل ممثليها لدى “الاتحاد” ولا تدفع المستحقات الواجبة عليها منذ سنوات.