حالات تضارب المصالح التي انكشفت داخل الحكومة، والمساعي التي يقودها وزير العدل لفرملة إحالة ملفات المنتخبين من طرف الجمعيات، واستمرار احتجاز توصيات المجلس الأعلى للحسابات باعتباره أهم محكمة رقابية، والضبابية والتردد اللذين يطبعان عمل مجلس المنافسة، واستمرار وضع ملفات فساد مثيرة للجدل داخل الثلاجة، كلها مؤشرات تؤكد أن الفساد يتغول بالمغرب، وأن إرادة التصدي له غير متوفرة.
هذا الواقع عكسته منظمة “تراسبرانسي” التي قالت أنه ليست هناك إرادة سياسية حقيقية بالمغرب لمحاربة الفساد.
وأشارت إلى أن العديد من المنظمات المنوط بها محاربة الفساد أو الوقوف عليه، مثل مجلس المنافسة أو الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أُفرغت من محتواها.
نقطة ضوء
ويبقى الفارق هو إحالة ملفات عدد من البرلمايين و المسؤولين ورؤساء الجماعات والمجالس المنتخبة على رئاسة النيابة العامة، والشروع في محاكمة بعض “الصغار” من تورطوا في استغلال مناصبهم الوظيفية أو الانتدابية للاغتناء غير المشروع، وتبديد الأموال العمومية.
خطوة تزامنت مع تجدد “الانتقادات” التي وجهتها الجمعيات الحقوقية المهتمة بالمال العام لطريقة التعاطي مع ملفات الفساد المالي في ضل ضعف الأداء السياسي المتربط بهذا الجانب.
انتقادات بدا لافتا انه اتخذت صيغة اتهامات ب”التراخي” و”التقصير”، رغم الفورة التي سجلت مباشرة بعد التعليمات التي دعا فيها ، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، السابق، المسؤولين القضائيين إلى التعامل الصارم مع جرائم الرشوة، واختلاس وتبديد المال العام، والغدر، واستغلال النفوذ قبل أن ينخفض الإيقاع مجددا، وبشكل طرح علامات استفهام حول ما اذا كان الأمر مجرد “صافرة” لتنفيس طنجرة الضغط .
الانتقادات همت بالأساس وضع عدد من الملفات، و الشكايات المرتبطة بجرائم الأموال، أو المتعلقة باختلالات في التسيير واستغلال النفوذ في “الثلاجة” .
جاء ذلك بعد أن عبرت الجمعيات الحقوقية صراحة عن “أسفها” لما تعرفه بعض ملفات الفساد و نهب المال العام المعروضة على القضاء من “بطء”،و “تماطل”، و من”أحكام مجانبة للصواب”.
الولاة والعمال خارج المحاسبة
جاء هذا بعد أن عمرت بعض الملفات التي شغلت الرأي العام، لدى قضاة التحقيق لأزيد من تسع سنوات دون أن يتم الحسم فيها، في حين أن ملفات أخرى لازالت معلقة، أو مجهولة المصير رغم كل الضجيج الذي رافقها والاتهامات الخطيرة التي سالت منها.
الانتقادات طالت أيضا اقتصار فتح باب المساءلة في وجه مدبري الشأن العام من المسؤولين والمنتخبين، دون فتح ملفات عدد من رجال السلطة من ولاة وعمال رغم أنهم يدبرون ميزانيات بالملايير، ويتحكمون في زر عدد من الرخص والقرارات والمشاريع.
اليوم و في ضل تفاقم الإجماع الحاصل حول وجود تطبيع سياسي مع الفساد المالي، والذي اتخذ أكثر صوره ابتذالا مع إعدام “تجريم الاثراء غير المشروع”، فان هذه المتابعات على قلتها تبدو غير كافية لرمي حجر صغير في المستنقع الراكد، و بعث رسالة، ولو بتأثير محدود جدا.
اللافت أن الحكومة تبدو الرابح الأكبر من وضع ثقل هذه المهمة على عاتق النيابة العامة، هذا رغم أن تحريك الملفات المرتبطة بشبهات الفساد المالي، سواء المرتبطة بالمؤسسات المنتخبة أو المؤسسات العمومية، يجب أن يرتبط أساسا بوضع آليات واضحة تبين الجدول الزمني السنوي لعمليات المراقبة، و الافتحاص، التي تباشرها الجهات المختصة وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة الداخلية .
معطى سيقطع في حال تفعليه مع الانتقائية ويجعل تلك المؤسسات بعيدة عن المزايدات السياسية، وهو آمر يتعين دعمه بالتفاعل السريع للجهاز القضائي مع الملفات ذات الطابع الجنائي، وخاصة عملية التحقيق في إطار ضمان قواعد المحاكمة العادلة وتقديم المتورطين إلى المحاكمات كما حصل في ملف ريع مكاتب الدراسات.
حقوقيون يؤكدون أن من شأن تبني هذين الاجرائين اللذان يتطلبان الزيادة في عدد الأطر والقضاة في أجهزة الرقابة ضمان انسيابية المتابعات ، وبالتالي القطع مع وجود شبهة الانتقائية لجماعات بعينها دون الأخرى.
تقارير سوداء في الثلاجة
هذا الواقع يحيل وبشكل مباشر على تقارير المفتشية العامة لوزارة الداخلية التي تصدر تباعا،و تتضمن خروقات خطيرة تستوجب العزل لكن دون أن يتم تحريك المسطرة القضائية.
ويبقى واضحا أن البطء في عمليات المراقبة و الحسم القضائي إضافة إلى عدم ملائمة التشريعات الوطنية مع مقتضيات الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب سنة 2007 ، هو ما جعل المغرب في تراجع مستمر على مستوى مؤشر الفساد العالمي.
هذا الوضع أيضا جعل رئاسة النيابة العامة تواجه انتقادات حقوقية مباشرة لطريقة تعاطي القضاء والمصالح المكلفة بالبحث والتحقيق مع ملفات الفساد المالي، بعد أن استهلكت بعض القضايا سنوات دون أن يتم الكشف عن المتورطين فيها، فيما تم تبرئة آخرين، أو تمتيعهم بعقوبات موقوفة التنفيذ رغم خطورة الأفعال المرتكبة، والتهم الثقيلة الموجهة إليهم.
واقع عنيد جعل الرهان على القضاء للتصدي للفساد والرشوة والإفلات من العقاب، والجانب الدستوري والقوانين التنظيمية الداعمة لتعزيز القضاء كسلطة مستقلة يصطدم بمؤشرات سلبية في طريقة تعاطي القضاء مع ملفات الفساد.
المؤشرات لخصها حماة المال العام في طول أمد البحث أمام الشرطة القضائية الذي يستغرق في بعض الحالات أكثر من خمس سنوات، وغياب المتابعات في حالة اعتقال، بعد تمتيع عدد من المتهمين بالسراح رغم أن الأفعال المرتبكة من طرفهم خطيرة وترتبط إما بالتزوير أو اختلاس وتبديد أموال عمومية، أو الرشوة التي حصل بعض المتابعين فيها على السراح في قضايا أثارت جدلا كبيرا لدى الرأي العام.
رفع اليد
كما أن صك الانتقادات الموجهة للنيابة العامة تضمن أيضا “التراخي” في التعاطي مع بعض الملفات حيث تمت الإشارة إلى بعض الحالات التي حركت فيها النيابة العامة متابعات في حالة سراح، وهي الحالات التي طرحت الكثير من علامات الاستفهام بعد إحالتها على قاضي التحقيق مع رفع اليد عن تقديم أي ملتمس بوضع المتهمين بالسجن، أو متابعتهم رهن الاعتقال ، وذلك من خلال الاكتفاء بعبارة تمنح للقاضي صلاحية “اتخاذ ما يراه مناسبا”، وهو ما اعتبر تملصا من أداء الدور المنوط بالنيابة العامة من خلال رمي الكرة في ملعب قاضي التحقيق رغم أن الأمر يتعلق بملفات مرتبطة بجرائم الأموال.
كما سجلت عدة مؤاخذات على ملتمسات النيابة العامة خلال عدد من المحاكمات المتعلقة بجرائم الأموال بحكم أنها تبقى “ضعيفة” من حيث الجانب القانوني، كما يتم أحيانا تأخير الجلسات لمدة تفوق 4 أشهر دون أي اعتراض من النيابة العامة بشان اجل تأخير الملف رغم أن لها الحق في ذلك.
عقوبات ناعمة
ملاحظات جعلت حماة العام يجزمون بان القضاء لا يخوض معركة مواجهة الفساد ب”الجدية اللازمة”، وهو ما يترجم أيضا من خلال صدور عدة “أحكام مخيبة للآمال”، و”مثيرة للريبة “، بفعل عقوبات مفرطة في النعومة، تشمل وقف التنفيذ، و في حالات أخرى البراءة، وهي أحكام اعتبرت أنها تشكل “مؤشرا سلبيا للغاية” خاصة مع وجود أحكام صدرت بشكل مخالف للقانون، وتتضمن “تشجيعا وتحريضا على استمرار ممارسات الفساد، ونهب المال العام”.
مؤاخذات تكرس في عمقها التعامل الموسمي مع ملفات جرائم الأموال من خلال تسويقها واستهلاكها إعلاميا، ليبقى الثابت أن حجم الفساد المالي أكبر بكثير، ويبقى بحاجة لإرادة حقيقية من الدولة، تترجم من خلال جميع المؤسسات المعنية، خاصة بعد التصريحات المثيرة للجدل الصادرة عن وزير العدل بشأن إغلاق الباب أمام الجمعيات لمنعها من تقديم ملفات المنتخبين للنيابة العامة .
الثابت أن حالة المد والجزر التي يعيش على إيقاع التعامل مع عينة محددة من ملفات الفساد المالي، واستمرار اغماض العين عن الاختلالات التي تكشفها وسائل الإعلام الجادة، وجمعيات حماية المال العام، يعطي انطباعا بأن فتح ملفات الفساد الكبير وفي ظل الواقع الحالي سيبقى مجرد حلم بعيد المنال.