كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
إسبانيا وخدعة التمييز ببن السيادة والإدارة في الصحراء
ظل الهدف البعيد في ملف الصحراء هو زرع بذور التشكيك في المعطيات التاريخية والقانونية والحضارية التي استند إليها المغرب في تعزيز ملفه المطلبي أمام المجتمع الدولي، وتحديدا خلال فترات المواجهة المفتوحة بين الرباط ومدريد، ولا يعني بعض النقاش الدائر حول اكتفاء إسبانيا بتسليم الإدارة إلى المغرب وليس السيادة، سوى جزء من تلك الخطة.
فالأصل في الوجود الاستعماري في أي منطقة من العالم، أنه كان مفروضا ضمن بواعث توزيع مناطق النفوذ ونهب خيرات الشعوب، وبالتالي ليست هناك تجربة استعمارية في العالم ارتكنت إلى مفهوم السيادة التي لا تتوفر عليها، حتى تسلمها عند انسحابها.
لكن هل كانت الصحراء قبل استعمارها من لدن إسبانيا منطقة قائمة الذات.. وهل كانت هناك سلطة غير السلطة الشرعية المركزية للمغرب تدير تلك الأقاليم قبل احتلالها؟ لماذا إذن يجري التنكر لهذا الواقع القانوني والتاريخي، وكأن الوجود الاستعماري سيستنسخ ما قبله من معطيات؟ هل كانت في الأقاليم الصحراوية إدارة غير الإدارة المغربية، وهل كانت المعاملات تتم بعملة غير مغربية أو تحت علم غير مغربي؟ أبعد من ذلك، هل سجلت القضية عندما كانت تحت خانة تصفية الاستعمار باسم كيان آخر غير الدولة المغربية؟ وهل تفاوضت إسبانيا قبل جلائها مع المغرب أم مع جهة أخرى، حتى يُصار اليوم لطرح فرضيات خاطئة لا يمكن ألا تقود إلا إلى خلاصات خاطئة ومرفوضة؟
في سياق متصل، فإن إسبانيا حين تُقر بأنها لم تمنح المغرب السيادة على الصحراء، تكون منسجمة مع نفسها من منطلق أن فاقد الشيء لا يعطيه، لكن أطروحتها حول الأرض الخلاء تكون انهارت بفعل أنها حين احتلت الإقليم، كان هناك سكان منتظمون داخل مجتمع يرتبط بالسلطة المركزية للدولة المغربية على مر العصور، وهذا الارتباط في طبيعته وتقاليده ومجالاته يختصر مفهوم السيادة التي لم تكن لغير الدولة المغربية.
إن طرح فكرة السيادة المجزأة لا يصمد أمام حقيقة أن التدرج الذي سلكته المفاوضات المغربية الإسبانية في استعادة طرفاية وسيدي إيفني ثم الساقية الحمراء ووادي الذهب، كان يضع كل هذه الأقاليم في خانة واحدة، لا يفرق بينها سوى العامل الزمني، وإذا كانت إسبانيا أذعنت لحقيقة أنها سلمت المغرب السيادة على طرفاية وسيدي إيفني، فكيف لا ينطبق الأمر على باقي الأقاليم التي كانت جميعها واقعة تحت الاحتلال الإسباني؟
لقائل أن يرد بأنه لم تكن هناك مطالب في ملف المناطق الصحراوية التي توصف الآن بأنها غير متنازع عليها، على عكس ما هو عليه الوضع بالنسبة للصحراء؟ لكن منذ متى ظهرت تلك المطالب وفي أي ظروف وتحت أي اعتبارات؟ وهل يكفي أن يوجد منازع ليتم التنكر لكل الحقائق ذات الصلة بمظاهر السيادة؟ ثم لماذا لم تجد إسبانيا في أطوار المواجهات الدبلوماسية لتحقيق الجلاء غير المغرب؟ أين كانت جبهة بوليساريو حين كانت قوات جيش التحرير والمقاومة تخوض المعارك تلو الأخرى لتحرير الأرض؟
الذين يتحدثون عن مطالب غير مغربية، يعرفون جيدا أنها لم تظهر إلى حيز الوجود إلا حين صمم المغرب على الدخول في آخر مواجهة مع إسبانيا، وتحديدا من خلال طلبه إلى الأمم المتحدة الاستئناس باستشارة محكمة العدل الدولية في لاهاي، فهل كانت بوليساريو طرفا في هذه العملية؟
الأكيد أنها لم تكن كذلك، لأنها كانت قد انتقلت من حركة تحرر إلى مجرد أنبوب في الحاضنة الإسبانية، ترضعه مدريد تارة والجزائر تارة أخرى للتشويش على مسار الأحداث، خصوصا في الجانب الذي يطال ترك “مسمار جحا” في البيت المغربي كما في الحكاية الشعبية.