تعيش حكومة عزيز أخنوش، أزمة غير مسبوقة مع طلبة الطب، الذين دخلوا في إضراب مفتوح منذ ما يقارب العام. أزمة تضرب في عمق قطاع الصحة، أحد أهم القطاعات التي تُعتبر ركيزة أساسية لتنزيل ورش التغطية الصحية الشاملة، المشروع الذي وضع الملك محمد السادس أسسه وأعطى إشارة انطلاقه. لكن، عوضا من أن تُدير الحكومة هذا الملف بحنكة، وجدت نفسها تائهة في التعامل معه، فارتكبت عدة أخطاء لم تساهم سوى في تعميق الأزمة وتأخير الحل.
ومنذ انطلاق الأزمة، ظهر جليا أن الحكومة، ممثلة بوزير التعليم العالي عبد اللطيف ميراوي ووزير الصحة خالد آيت الطالب، فشلت في تبني استراتيجية واضحة ومتماسكة لحل المشكلة. فعلى الرغم من أن الطلبة دخلوا في الإضراب بعدما أعلنت الوزارة تقليص سنوات الدراسة من سبع إلى ست، إلا أن الحكومة تمسكت بقرارها دون تقديم تفسيرات كافية أو فتح قنوات حوار جدية مع المعنيين.
كما أن التشديد في كل مرة على أن الأمر يتعلق بـ “قرار سيادي” ، أعطى الانطباع وكأن الحكومة تُفضّل “إملاء القرارات” عوض إشراك الطلبة في اتخاذها، مما ولد إحساسًا بـ “الغبن والإحباط” حتى لا نقول “الحكرة”، لدى هذه الفئة التي تنتمي الى جيل الناشئة والشباب. وهي فئة معروفة بتوجهها الطبيعي نحو التمرد على كل “القرارات الفوقية” والميل إلى رفض كل ما يأتي في شكل “وصاية أبوية”.
إلى جانب هذا، كانت ردود فعل الحكومة متناقضة وغير متسقة. ففي الوقت الذي تعلن فيه الوزارتان استعدادهما للحوار، نرى تهديدات وإجراءات عقابية تُفرض على الطلبة، بدءا بمنحهم نقطة الصفر في الامتحانات التي قاطعوها، مرورا بحل مكاتب الطلبة وتوقيف ممثليهم، وصولًا إلى منعهم من الالتحاق بالأحياء الجامعية. وهي كلها اجراءات لم تسهم سوى في تعقيد الموقف وإغلاق أبواب الحلول الممكنة.
لقد تجاهلت الحكومة تحذيرات عديدة من تدهور الوضع، سواء من قبل الطلبة أو من قبل أساتذتهم أو النقابات وحتى بعض الأحزاب السياسية. ولم تتفاعل بشكل جدي مع الاحتجاجات التي نظمها الطلبة، ولا سيما الإنزالات الوطنية المتكررة، ما يُظهر غياب الحس الاستباقي في إدارة الأزمة. فالأزمة لم تبدأ بين يوم وليلة، بل كانت تتراكم منذ ديسمبر 2023، حينما أعلن الطلبة مقاطعة المحاظرات والامتحانات.
الأخطر من ذلك هو اتهام الحكومة للطلبة بأنهم “محرَّضون” من جهات خفية أو أن جزءاً منهم يتطلع إلى الهجرة، وهو ما سبق وعبر عنه الميراوي بالقول “الدول الأوروبية مثل فرنسا ستقبل الأطباء المغاربة ولو كان لديهم عامان فقط من التكوين”. هذه التصريحات، الصادرة من مسؤولين في الحكومة، تعكس عدم فهم عميق لدوافع الطلبة وتطلعاتهم، وتصورهم كأطراف مناوئة بدل أن يكونوا شركاء في إصلاح قطاع الصحة.
ولعل من أبرز الأخطاء الأخرى، التي وقعت فيها الحكومة هو فقدانها لثقة الطلبة، حيث أن التباين بين وعود الحكومة، وبين ما يحدث على أرض الواقع، أدى إلى تأجيج غضب الطلبة. وعوضا عن تقديم تبريرات موضوعية ومنطقية لتقليص مدة التكوين في الطب، وتطوير الحوار مع ممثلي الطلبة، أظهرت الحكومة ولاسيما وزارة “ميراوي”، حالة من الاستعلاء على مطالبهم، وهو ما جعلهم يشعرون بأنهم مجرد أرقام في معادلة الإصلاح، دون مراعاة لتأثير هذه القرارات عليهم.
اليوم، ورغم أن الأزمة تجاوزت التسعة أشهر، إلا أن الحكومة لم تستطع وضع حلول ناجعة ومستدامة. دعوات الوزيرين لاجتياز الامتحانات وتخلي الطلبة عن الإضراب جاءت دون تراجع عن القرارات التي أشعلت الأزمة من الأساس. إضافة إلى ذلك، لم تقدم الحكومة أي خطط او استراتيجيات واضحة لتحسين جودة التكوين الطبي، رغم أن هذا المطلب كان ولا يزال في قلب الملف المطلبي للطلبة المحتجين.
وبالنظر إلى تعقيدات الأزمة، لا يمكن التغلب عليها دون اتخاذ خطوات واضحة، جادة، وجريئة نحو الحل. أولا، ينبغي على الحكومة فتح قنوات حوار حقيقية مع الطلبة، تتسم بالشفافية وتُشعرهم بأنهم شركاء فعليين في اتخاذ القرارات المتعلقة بمستقبلهم. فلا يمكن تجاهل فئة تعد العمود الفقري للقطاع الصحي في البلاد، ولا يمكن الاستمرار في اتخاذ قرارات سيادية دون إشراك الأطراف المعنية.
ثانيا، على الحكومة أن تتراجع عن بعض الإجراءات التي زادت من تأجيج الأزمة، مثل إلغاء قرار منح نقطة الصفر للطلبة، وإعادة الاعتبار لمكاتبهم التمثيلية، مع توفير ضمانات قانونية لحمايتهم من أي تدابير انتقامية.
ثالثا، ينبغي وضع خطة واضحة لتحسين جودة التكوين الطبي بالمغرب، من خلال الاستماع إلى مطالب الطلبة المتعلقة بالتداريب والتعويضات. فالطلبة لا يرفضون تقليص سنوات الدراسة لمجرد الرفض، بل يطالبون بضمان أن تقليص هذه السنوات لن يمس بجودة تكوينهم العلمي والعملي.
وأخيرا، يتعين على الحكومة، ومن خلال وزارتي التعليم العالي والصحة، أن تعترف بأن هذه الأزمة لها تبعات خطيرة على قطاع الصحة، وأن الاستمرار في تجاهلها قد يؤدي إلى مزيد من الخصاص في الأطباء، خاصة في وقت يتجه فيه المغرب نحو توسيع نطاق التغطية الصحية الشاملة ليشمل جميع المغاربة.