واقعة أمستردام تستحق القراءة والتأمل المعرفي على أكثر من واجهة! فهي وإن كانت تشكل أزمة متعددة الجوانب، إعلامية وثقافية وسياسية، قد تضر بمغاربة هولندا وأوروبا وبالمهاجرين من أصول عربية ومسلمة تحديدا، غير أنها تهديد تحول تلقائيا، بفضل الاستعداد القوي للتلقي لدى الجمهور، إلى نجاح تواصلي وخطابي مبهر، لو أنفقت الدولة المغربية الملايير في سبيله، وفي سبيل ابراز قوة الشخصية المغربية الوفية والمؤمنة بالقضايا العادلة، لما حصلت على جزء يسير من ثماره!
وقد كانت الجالية المغربية بهولندا أهم حلقة نظر إليها العالم في هذه الواقعة، فهي جالية تستحق كل ذلك الاهتمام لما تسهم به في اشعاع ورقي المملكة، وما الاهتمام الملكي لاسيما في خطاب المسيرة الخضراء الأخير بمغاربة العالم ، إلا دليل إضافي على وعي الدولة بأهميتهم ومركزيتهم كصف متقدم في ابراز الشخصية المغربية في الخارج، تنضاف إليهم ما تفعله باقي الجاليات المغربية في باقي بقاع العالم، وما شهدناه من تضامن منقطع النظير من مغاربة إسبانيا في التخفيف من آثار الفيضانات الأخيرة، وهي في حملة تضامن ترد أيضا على سردية العنصرية ضد المهاجرين بشكل عام.
هذه الأزمة أثارت حربا إعلامية كبيرة، وصراع خطاب صور بشكل مثير وربما غير مسبوق. لقد حاولت الدعاية الإسرائيلية ومعها الآلة الإعلامية الغربية المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني، أن تسيطر على السرد controlling the narrative. وهي نظرية روائية خطابية تستعمل لفرض رؤية واحدة، لتوجيه الرأي العام إلى خلاصات محددة، ولمنع الأطراف الأخرى من بسط تصوراتها وقراءاتها للأحداث، ولإثارة التعاطف وتحويل النظر عن ملفات فساد وضعف داخلي…
فهي عملية تسعى لأن تقدم رواية واحدة، مفادها أن الشعب الإسرائيلي مسكين ومظلوم ولا يخطأ أو يزل، وأنه هذا الحمل الوديع تعرض للافتراس من قبل ذئاب في هولندا “الكالفينية” المنفتحة والمؤمنة بوعد الرب لليهود، عدد كبير من هذه الذئاب من أصول مغربية. ثم حاولوا تشبيه الواقعة ب 7 أكتوبر 2023، بل وهناك من حاول ربطها بماضي اليهود في أوروبا. في جانب آخر من هذا السياق هناك سردية أخرى يحاول خصوم المغرب فرضها إعلاميا و “روائيا” وبشكل منتظم ومستمر، وهي مسألة أن المغرب بلد مطبع مع الصهاينة دولة وشعبا، وأن المملكة تدعم إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، وفي قتل الأطفال والنساء، وأن موانئ البلد تسهل استقبال وعبور سفن الأسلحة نحو دولة الاحتلال الصهيوني.
وللأمانة فإن الدولة المغربية لم تفرض رؤيتها للعلاقة مع إسرائيل على المجتمع، ولم ترفض أن يعبر المجتمع المغربي عن تخوفاته من هذه العلاقة. بل إن الدولة تعبر عن موقفها الواضح لصالح القضية الفلسطينية، وسمحت بالتظاهرات ضد هذه العلاقة مع إسرائيل وللتضامن مع الفلسطينيين، عكس ما فعلته دول أخرى تدعي تطابقها مع الفلسطيني ظالما أو مظلوما، غير أنها قمعت شعوبها ومثقفوها المناصرة للشعب الفلسطيني، ولم تسمح بأي تعبير جماهيري عن هذه النصرة! وفي آخر المطاف قد تكون الدولة المغربية ارتأت بحكم التجارب التاريخية مع الإسرائيليين، أنه ينبغي خلق توازن ما بين الإكراهات والضغوطات الكبيرة التي تحيط بالمملكة لإبرام علاقات مع أجنحة في إسرائيل، وما بين ضغوطات المجتمع المغربي ورغباته.
وبذلك استمرت واستعرت الرغبة الإسرائيلية في محاولة السيطرة العالمية على السرد الإعلامي بشدة عقب واقعة أمستردام، لردم الثمار التواصلية التي حققتها الشخصية المغربية في الدفاع عن الفلسطينيين، وفي رفض الهمجية الصهيونية التي لا تحترم البلدان المضيفة، ولا مشاعر عائلات الذي قضوا في فيضانات فالنسيا بإسبانيا، ولا مشاعر الهولنديين والمسلمين المقيمين بها، الذين لم يتعرضوا للإسرائيليين إلا عندما استفزوهم بعنف، وبلغة الغطرسة على مشارف بيوتهم. فإسرائيل هاته، معروف فيها أنها لم تؤمن لا بدولة جامعة واحدة، ولا بحل الدولتين، ولا بأي حل خرافي آخر سوى حل التصفية التامة للقضية الفلسطينية، وتشريد الفلسطينيين، والسير في طريق لن ينتج سوى المقاومة ثم المقاومة ثم المقاومة.
وهي بذلك واقعة اعتداء مادي ولفظي عنيف، واقعة إقصاء مارسها الإسرائيليون على “الآخرين”. عنف تعرض له أفراد الجاليات العربية والمسلمة وكل المستاؤون من الإبادة الجماعية التي تحدث في فلسطين، ولم يكن ينتظر أي رد فعل آخر غير الذي شاهدناه. وبذلك فإن ذلك الأمل الإسرائيلي في التنديد بسلوك مغاربة هولندا، وفي نشر خطاب معاداة السامية أو تهمة الاعتداء على مشجعي فريق كرة قدم، سقط جملة وتفصيلا عندما ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في مقاومة السرد الإسرائيلي للواقعة، وبعدم تمت مقاومة الدعاية الإسرائيلية بنفس ادواتها، في نشر الصور التي تعبر عن همجية وعنف واستفزاز جنود إسرائيل المتسترين وراء تشجيع فريق كرة قدم.
ومن أهم خلاصات هذه الأزمة، أنه وبالرغم من المحاولات الكثيفة للسيطرة على السرد في تحديد عناصر رواية أمستردام، إلا أن التواصل الجماهيري لفائدة القضية الفلسطينية، جعل من الشخصية المغربية، رمزا بطوليا يدافع عن شرف المظلومين، بل وينظف شرف الدولة المغربية الذي تعرض خلال السنوات الماضية، إلى حملات تهجم وتشويه غير مسبوقة في المنطقة العربية. فصار اليوم اسم المغرب والمغاربة، امتدادا لمغاربة حارة مغاربة القدس، وعنوانا جديدا للقضية الفلسطينية، ودحضا لكل محاولات تخوين المغاربة تجاه القضية الفلسطينية التي يعتبرها المغرب دولة وشعبا امتدادا لثوابت المملكة، والأكثر أصبح المغاربة، “كتيبة” للانتصار على الآلة السردية الإسرائيلية في مقابل اشعاع وانتصار الشخصية المغربية.
مغاربة أمستردام وتنظيف شرف الدولة المغربية!
بواسطة إدريس بن يعقوب