مع اقتراب الانتخابات، سنشهد تصعيدًا في الضرب والجرح المتبادل، ليس بين الحكومة والمعارضة فقط، بل من داخل أحزاب الأغلبية التي شرعت مبكرًا في تسخين “الطعارج” بعد خرجات ساخنة أعلنت بشكل صريح أن “البطولة” الانتخابية قد انطلقت.
بطولة لن تختلف كثيرًا عن حالة بطولتنا في كرة القدم، بكل الخشونة التي نعاينها، والتي تدفع في اتجاه أن يكون زر التحكم في هوية الفائز في يد جهة صار الجميع يعلمها علم اليقين.
القصف الذي صدر من قيادات من الاستقلال والتجمع جعل البام يسارع لإعلان نواياه في تصدر الانتخابات المقبلة، وهي ثقة يحسد عليها هذا الحزب الذي لا تزال خطيئة الولادة تلاحقه إلى الآن بعد أن فشل في مهمته وصار عبئًا على أكثر من جهة.
ما نراه ليس تصريفًا لمواقف سياسية كما قال بايتاس، بل هو سلوك لا علاقة له بالسياسة، ما دمنا أمام تقية من نوع آخر تجعل أحزاب الأغلبية تقع في انتهازية الجمع بين امتيازات الحكم وشرف المعارضة.
ممارسة مفضوحة لا يمكنها أن تنطلي على المغاربة، كما لا يمكنها أن تسعف هذه الأحزاب على ترميم صورتها أو مصالحتها انتخابيًا مع المغاربة الذين عاينوا كيف تغير جلدها أكثر من مرة.
لقد كان جديرًا بأحزاب الأغلبية أن تترجم مواقفها بما تقتضيه ضريبة ممارسة السلطة، لا أن تأكل اللحم وترفض المرق.
والواقع أن ازدواجية المواقف والنفاق صار سلوكًا عاديًا لدى أحزاب تم تعديلها جينيًا، لهذا صرنا نرى من يبرر “قليب الفيستة” والتنكر للتعهدات والالتزامات بدعوى أن الخطاب الحزبي ليس هو الخطاب الحكومي، وأن لكل مقام مقال…؟
سلوك عايناه لدى كثير من الوجوه التي ترى الدنيا وردية وهي في الحكومة، وتتهم من يقول غير ذلك بالشعبوية والتبخيس، لكنها تشحذ لسانها وترتدي نظارات سوداء إذا ما أجبرت على النزول من عربة الحكومة او استبدت بها حمى الانتخابات.
هذا أيضًا حال عدد من أمناء الأحزاب السياسية التي تتاجر في التزكيات ولا تجد حرجًا في الاستمرار في بيع الأوهام للمغاربة وقبض الثمن، والادعاء بأنها أيضًا ضحية.
من جهة أخرى، أمر طبيعي أن يحاول أخنوش الدفاع عن حصيلته، لكن من الأفضل أن يتبنى في ذلك خطابًا واقعيًا ومتوازنًا، حتى لا يجد نفسه في مواجهة نيران صديقة قد ترميه بالفضائح والتناقضات التي لا يزال الأرشيف يحتفظ بها.
كما من حق رئيس الحكومة أن يقصف المعارضة، ويتهمها بأنها تٌفرط في الترويج لأحكام عامة، من خلال الحديث عن غياب أي إنجازات على صعيد قطاعات التعليم والصحة والصناعة، مادام الأمر يتعلق في نهاية المطاف بتسخينات استباقية لم تعد تغري المغاربة بمتابعتها، كما لم تعد تنطلي عليهم من الطرفين.
أخنوش سبق وقال إن المغاربة يثقون في حزبه ويشاهدون الإنجازات التي تحقق على الأرض، وهو أمر فيه نظر، لأن ما يعاينه المغاربة فعلاً هو المزيد من التردي الذي يطال الكثير من مناحي حياتهم، بما في ذلك قطاعي التعليم والصحة والشغل بالتحديد، وهو ما سيكون حطب الانتخابات المقبلة.
الغريب أن الملياردير أخنوش، مصر على استعمال نظاراته الوردية في تعاطيه مع التقارير الرسمية السوداء التي تصدر تباعًا، والتي تؤكد أننا نراكم الفشل في قطاعي الصحة والتعليم، وهنا يكفي الإحالة فقط على التقرير السنوي الطري للمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
ما نعيبه على رئيس الحكومة بعيدًا عن “سيتكوم” الانتخابات، هو مطالبته لخصومه بالتحلي بخطاب سياسي “أكثر موضوعية، وأكثر اتزانًا عوض اللجوء إلى تقديم معطيات غير صحيحة”.
هو أمر ينهى عنه أخنوش، لكنه يقع فيه حين يتحدث عن نجاحات جعلتنا أول دولة اجتماعية في إفريقيا، كما يتحدث بيقين عن إنجازات في قطاعي التعليم والصحة، رغم أن زيارة بسيطة لأي قسم مستعجلات كافية جدًا لإقناعه بأن الأرقام والخطاب الرسمي لا علاقة لهما إطلاقًا بالواقع الصادم…
تكفي زيارة واحدة دون سابق إشعار.
لن نعيب على أخنوش ترديد هذه الأسطوانة من جحود بالمنجزات، ونشر العدمية، وتبخيس دور المؤسسات، وهي تهم رماها في وجه المعارضة التي قال عاب عليها التشكيك في أرقام رسمية، وحديثها عن جر البلاد للمجهول، وهي نفس التهم التي كان عدد من الأحزاب التي تولت تدبير الشأن العام تقصف بها عددًا من الحكومات، فما الذي تغير؟
الذي تغير طبعًا ليس واقع المغرب، الذي نعلمه جميعًا، والذي لا يزال يمنحنا مراتب متأخرة في معظم التقارير الدولية، رغم التقدم الحاصل في مؤشرات لا تنعكس إطلاقًا على الحياة اليومية للمغاربة، بل الذي تغير أن أخنوش وحزبه أصبحا في موقع المسؤولية، ولكل مقام لسان، لهذا نعاين كيف أصبح كل من ينتقد أو يواجه الحكومة بفشلها، وأخطائها، وعجزها وتواطؤها منخرطًا بالإكراه ضمن “الجوقة” أو الطابور الذي تحاول إقناعنا بوجوده، والذي تنسب إليه بث اليأس والإحباط.
نعم، من حق الرجل أن يتهم المعارضة بالإفراط في النقد الفارغ، لأنها لا تملك بديلاً واقعيًا، وعرضًا مقنعًا، وسندًا شعبيًا.
هذه الحكومة لن تبقى على عربة السلطة للأبد، وسيدون التاريخ ما اقترفته وما قالته، كما أن محاصرة “التبخيس” المفترض لن تتم إلا بإحداث تغيير حقيقي في العقليات والممارسة، عبر خطاب سياسي جديد وصادق يترجم النوايا إلى أفعال، لا بتوزيع الاتهامات، والركوب على الأرقام التي يهرب إليها أخنوش ووزراؤه في كل مرة يواجهون فيها بالأعطاب الكبرى للبلد، موازاة مع سعيهم ودون حرج، لتجريم الحق في الاحتجاج والنقد.
اليوم ومع اقتراب الانتخابات، سنسمع “كلاشات” لبرلمانيين يبحثون عن تسويق صورتهم، وتمرير مصالحهم أكثر من سعيهم لحل مشاكل هذا الوطن، كما سنعاين نوعًا جديدًا من المعارضة السريعة، من خلال الهرولة والتسابق نحو تدبيج أسئلة غارقة في الإنشاء والطفولية، قبل تلطيخ مواقع التواصل الاجتماعي بها من قبل برلمانيين وسياسيين يعتقدون أن مهمتهم تنتهي عند إشهارها وكأنها إنجاز بطولي، فيما الأسئلة الحقيقية التي يجب أن تطرح أصبحت تائهة وسط هذا الضجيج والسيرك السياسي الذي، وللمفارقة، خلق لنا اليوم معارضة هجينة يمارسها وزراء ضد بعضهم ويسخرون فيها فرقهم داخل البرلمان بداعي شعورهم بالملل.
النيران الصديقة التي بات صوتها يسمع واضحًا، والتي تتبادلها الأغلبية بسخاء من خلال الركوب على الهفوات والأخطاء وأوجه القصور في الأداء، والمسؤولية المباشرة في بعض القرارات، هي سلوك سياسي ينطوي على استهتار كبير بذكاء المغاربة، والذين يحاول البعض، ومنذ الآن إجبارهم على الاختيار بين الطاعون والكوليرا خلال الانتخابات المقبلة بعد أن أصبحت جميع البدائل إما مكشوفة أو محروقة.