بعد أيام تحلّ الذكرى 14 لاحتجاجات 20 فبراير، التي أحدثت زلزالا سياسيا في البلاد، وشكلت منعطفا حاسما في تاريخ المغرب المعاصر، أسفر عن دستور جديد، وإصلاحاتٍ غير مسبوقة، ومكّن الإسلاميين من رئاسة الحكومة، بعد فوزهم بالانتخابات المبكرة التي ما كانت لتنظم لولا المسيرات التي جابت ربوع المملكة.
اليوم، بعد أن تبين الخيط الأبيض من الأسود من الليل، بإمكاننا أن نحمد الله لأن النسخة المغربية من “الربيع العربي” انتهت بأقلّ الأضرار، بسبب نضج الفاعلين في مختلف المواقع، وتحليهم بالمسؤولية، وعلى رأسهم القصر الذي التقط رسالة المتظاهرين بسرعة ونباهة، مما جعلنا نتفادى قشرة “البنان”، التي كان يمكن أن تحول بلادنا من مملكة مستقرة إلى جمهورية موز. كلّ البلدان “اللي شافت الربيع وما شافت الحافة”، دعست على قشرة الفاكهة الصفراء، وسقطت على رأسها، لتتحول من بلدان ديكتاتورية بلا شك، لكن مستقرة، إلى دول فاشلة. يكفي أن نتأمل وضع تونس ومصر وليبيا وسوريا كي نحمد الله على السلامة. صحيح أن هناك تراجعات حدثت فيما بعد، خصوصا فيما يتعلق بالحريات، لكن الإصلاح المتوافق عليه أفضل دائما من التغيير الجذري المفتوح على أسوإ الاحتمالات.
الصفقات السياسة نعمة أحيانًا. وتاريخ المغرب المعاصر يتحرك بالصفقات. نهاية العقد الأخير من القرن العشرين دخل عبد الرحمان اليوسفي ومعه اليسار المغربي إلى الحكومة بموجب صفقة سياسية مع الحسن الثاني، أنهت أربعين سنة من المواجهة بين المعارضة والقصر. وفي مستهل العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين أوصلت صفقة أخرى الإسلاميين إلى السلطة. حزب “العدالة والتنمية” استحقّ رئاسة الحكومة لأنه رفض المشاركة في تظاهرات 20 فبراير، بشيء من الاختزال. صحيح أن التجربتين لم تفيا بكل الوعود، لكنهما حققتا جملة من الإصلاحات، وجنبتا المغرب سيناريوهات سيئة، وذلك هو الأهم.
ومن الصدف الحزينة أن تتزامن الذكرى 14 لمسيرات 20 فبراير مع اختفاء أحد أبرز وجوهها، الشاب أسامة الخليفي، الذي رحل في عزّ شبابه، بعد صراع غير متكافئ مع المرض.
الفتى الذي منح وجهه لانتفاضة الشباب المغربي، عاش حياة متقلبة، تطغى عليها الخيبات والنكسات. لم يستطع أن يتحمل الضوء الكثيف الذي داهمه على حين غرة، في وقت وجيز. كان أول من أطلق نداء التظاهر، لذلك وجد نفسه على أغلفة كبريات الصحف المغربية والعالمية، كلما أرادوا الحديث عن 20 فبراير يضعون صورته. وظلت النخبة السياسية والإعلامية تخطب وده. كثير منهم استعملوه ثم رموه مثل منديل. لم يكن ناضجا بما يكفي، كي يستوعب ما يجري. الحدث كان أكبر منه. في الوقت الذي عرف بعض رفاقه كيف يأكلون الكتف، واستطاع كثير منهم الاندماج في الوظائف والمشاريع السياسية والإعلامية، فشل أسامة فشلا ذريعا، ودخل إلى السجن وإلى البام… ولا أعرف أي تجربة أسوأ من الأخرى!
منذ رأيته أول مرة عرفت أن هناك شيئا مأساويا لدى هذا الولد. كانت هناك تظاهرة في الرباط، بساحة وزارة الإعلام القديمة، أمام سينما النهضة، الأحد 6 مارس 2011 على الأرجح. تجمع حشد كبير أمام منصة مرتجلة. صعد عليها الفنان صلاح الطويل كي يغني “زغرودة مغربية”، لكن قوات الأمن تدخلت لتفرق التجمع. رأيت أسامة يجري ويسقط ثم ينهض بطريقة مسرحية. وجدت في حركاته نوعا من المبالغة. كأنها لعبة. لا يمكن أن يكون مصيره مطمئنا هذا الولد، خمنت وقتها!
فيما بعد، كانت تصلني انتكاساته ويتأكد لي أنه ليس ممثلا بل بطلا إغريقيا. قدره أن يكون وجها للتغيير الذي لم يكتمل. أسامة حرث والآخرون حصدوا، كما يحدث في كل الحركات والانتفاضات والثورات.
رغم أنه لم يمت في ساحة النضال، فإن وجهه يذكرني بمحمد كرينة وعمر دهكون وسعيدة المنبهي ومحسن فكري وغيرهم ممن سقطوا في المسيرة المغربية الطويلة دفاعا عن الكرامة والعدالة الاجتماعية. أولئك الشباب الذين ماتوا قبل أوان الموت، في ظروف مختلفة، من أجل مغرب أجمل، ونسيهم الجميع، أو تقريبا.
هناك أشخاص سيئو الحظ، يذهبون بسرعة ويحتفظ التاريخ بصورهم. أبطال تراجيديون، يلخصون حدثا أو مرحلة. قدر أسامة الخليفي أن يكون واحدا منهم.
كان لا بد أن يموت، قبل الأوان، كي يعطي للأسطورة بعدها التراجيدي. مصيره ليس أفضل من مصير شباب الثورة المصرية مثل وائل غنيم، الذي انتهى مجنونا يدخن الحشيش ويبكي على وسائل التواصل الاجتماعي، أو سعيد بنجبلي الذي فقد عقله في الولايات المتحدة الامريكية وادعى النبوة…
للنضالات الكبرى وجوهها المأساوية دائما. أسامة الخليفي هو الوجه التراجيدي لملحمة 20 فبراير.
الوجه التراجيدي لحركة 20 فبراير!
