اهتز المغرب قبل أسابيع على وقع فضيحة فساد من الحجم الثقيل تورط فيها مسؤولون ومنتخبون ينتمون إلى حزب الأصالة والمعاصرة، جعلتهم يشدون على قلوبهم لهول الفضائح التي تلاحق هؤلاء والتي تتضمن التهريب الدولي للمخدرات والمتاجرة في البشر وتزوير وثائق والشطط في استعمال النفوذ؛ وعلى هوامش هذه الفضيحة الكبرى غير المسبوقة من حيث الحجم تابعت السلطات المغربية عددا من المسؤولين الجماعيين والبرلمانيين بتهم الفساد واختلاس الأموال العمومية، جميعهم ينتمون إلى هيئات سياسية وتقدموا إلى الانتخابات وحصلوا على “ثقة” الناخبين.
ولكن المفاجئ أن الرأي العام الوطني تعامل مع هذه الاعتقالات بكثير من البرود واللامبالاة، وهي ظاهرة جديدة تستحق التفسير لأن الرأي العام الوطني عودنا على الاهتمام بمثل هذه القضايا التي يتورط فيها مسؤولون سياسيون. وعلى سبيل المقارنة فإن فضيحة الكوميسير مصطفى ثابت التي أثيرت في بداية التسعينات من القرن الماضي، وفضائح الاختلاسات التي طالت عددا من المؤسسات في النصف الثاني من التسعينات عندما أعلن الملك الراحل الحسن الثاني أن المغرب مهدد بالسكتة القلبية، على إثر نشر تقرير البنك الدولي حول الفساد في المغرب، كانت قد أثارت اهتماما شعبيا واسعا في تلك الفترة، وتحولت إلى مسلسلات يومية يتابعها المغاربة، فما الذي حصل للمزاج الشعبي المغربي حتى أصحبت هذه القضايا بهذا الحجم لا تثير الاهتمام اليوم؟.
لعل السبب وراء هذه اللامبالاة يرجع إلى عاملين، العامل الأول أن هذه الفضائح أثيرت اليوم في ظل واقع اجتماعي واقتصادي صعب، جعل المواطن ينكب على قضاياه المعيشية اليومية من جراء الغلاء الفاحش وبوادر الجفاف واتساع رقعة البطالة، بحيث لم يعد يجد الوقت الكافي للاهتمام بما نسميه “الشأن العام”، لأن هذا الشأن العام تحول إلى انطواء المواطن حول نفسه وهمومه المعيشية، ولذلك لم يعد يهمه الشأن العام، بل ربما صار يؤمن بأن “الشأن العام” لم يعد بتلك الأهمية التي كانت له في الماضي، بعد أن تحولت السياسة وتدبير الشأن العام إلى مسألة شخصية لدى رجل السياسة في المغرب.
أما العامل الثاني، ولعله الأكثر أهمية، فيتعلق بشعور المواطن بغياب القيمة السياسية للمؤسسات، وبفساد الوضع السياسي في المغرب الذي أصبح مسلمة لدى المواطن يتعامل معها بطريقة روتينية وكأنها جزء من الحياة العامة في البلاد. فمنذ فترة ليست بالقصيرة لم يكن المواطن يولي العمل السياسي أي اهتمام، وصار ينظر إلى الانتخابات بوصفها مناسبات لتوزيع الغنائم لا توزيع المسؤوليات، واقتنع بأطروحة صارت بديهية لديه، وهي أن السياسة قرينة الفساد في المغرب.
إنها الحقيقة التي يعترف بها الجميع وإن كان الكثيرون لا يجهرون بها، وهي الحقيقة ذاتها التي جهر بها ملك البلاد في أكثر من خطاب له، حين انتقد العمل السياسي والطبقة السياسية وغياب المسؤولية الوطنية. لقد كرس أول دستور للمملكة عام 1962 التعددية السياسية لكي تكون أسلوبا للتعاقب على الحكم وتدبير الشأن العام، والتعددية الحزبية تفترض تعددية مداخل الإصلاح والبرامج الحكومية، ولكن هذه التعددية تحولت إلى عبء ثقيل على البلد لأن التعاقب صار تعاقبا على المال العام وليس على الشأن العام.
بيد أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن لهذا الوضع جذورا ضاربة في الحياة السياسية المغربية، ذلك أن الدولة فتحت الباب أمام النخبة السياسية لتأخذ حصتها مقابل الخضوع، فشرعت في إفراغ الأحزاب السياسية من المحتوى مقابل ولائها، ثم تحولت هذه الأحزاب نفسها في وقت لاحق إلى أداة لإفراغ الدولة من محتواها من خلال إفساد مفهوم تدبير الشأن العام وتحويل المؤسسات إلى وكالات شخصية أو عائلية، ولكن رجل السياسة لا يخسر شيئا بينما تخسر الدولة ثقة المواطن وتفقد هيبتها.
يمثل هذا الوضع خطورة اجتماعية وسياسية على المغرب إذا استمر حبل الفساد واستمر التسامح معه، ذلك أن دور الحزب السياسي أن يكون وسيطا بين المواطن والدولة، وهو ما أكد عليه الدستور الجديد في فصله السابع حين نص على ما يلي:”تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين”، ولكن الفساد السياسي ولامبالاة المواطنين سوف يؤدي مستقبلا إلى فقدان ثقة المواطنين في الأحزاب بما يترك فراغا في المجتمع، ويجعل “إرادة الناخبين” بدون مخاطبين يعبرون عنها؛ ولذلك فإن محاربة الفساد تعد اليوم تحديا على الدولة لاستعادة قيمة العمل السياسي وتقوية الهيئات الحزبية وإنقاذا للوضع من الفراغ السياسي الذي قد يتحول إلى قنبلة اجتماعية.