تعيش منظومتنا الصحية أسوأ مرحلة في تاريخها. فما بين اضرابات طلاب كليات الطب وسنة بيضاء مؤكدة يستحيل احياؤها بامتحانات في غياب التحصيل والتداريب، وتزايد مستوى الهشاشة الاجتماعية للكثير من فئات ممتهني الطب؛ يتم رسم صورة سوداء واقعية لحالة قطاع الصحة وبلادنا. يحصل كل هذا رغم تضاعف الميزانيات والتجهيزات وبنيات المؤسسات الجامعية. ويبقى السؤال المرتبط بالحكامة وبغياب إستراتيجية واقعية، وبرفض للحسابات السياساوية، في قلب مسببات الأزمة. ويظل التعامل مع القطاع بحلول مرحلية وجزئية وبكثير من ” البطولات الشخصية” مضرا بكل إرادة تهدف إلى الحد من النقص الحاصل في العرض الصحي. وتظل الضحية مواطنا أو مواطنة يتم وضعهم في محطة انتظار للولوج إلى خدمة طبية.
يجب التأكيد على أن المال هو المفتاح لدخول مجال الاستشفاء. إطلع الكثير من المغاربة على وثيقة صادرة من أحد مستشفيات الرباط العمومية بحي العكاري تم بموجبها تحديد موعد لمريض على الساعة الثامنة والنصف من يوم ثلاثة من شهر مارس لسنة 2026. يتعلق هذا الموعد بإجراء ” تخطيط للقلب” بسعر 50 درهم واستشارة طبية بسعر 60 درهم. إجراء تخطيط للقلب هي الخطوة الأولى في فحص صحة القلب. وتقوم بها، عادة، ممرضة قبل قراءة النتائج من طرف الطبيب. ولم يلجأ المريض إلى المستشفى، الذي حدد له موعد يصل إلى 18 شهرا، إلا حين شعر بأن حالته الصحية تتطلب تدخلا مستعجله.
ويمكن القول لمن يشك في هذا الأمر، أو لمن يرى أن حزبه، المشارك في الحكومة والمؤمن بكل خطاب عن الإنجازات يرى في معاناة المواطنين ونقلها إلى أصحاب القرار، مجرد خطاب معارض، أن يخصص من وقته ساعة أو ساعات في قاعات الانتظار في كافة المستشفيات العمومية. وليكن موعده مع الاستطلاع في أكبر مستشفى جامعي في المغرب. لا يمكن اعتبار التمويل العمومي المخصص للمستشفى العمومي حلا وحيدا لفتح باب الولوج إلى الخدمات.
تعددت أسباب معاناة المواطنين أمام المرض وأمام الولوج إلى العلاجات، وظل المستشفى العمومي على ما هو عليه. لم يكن للتمويل ذلك التأثير المطلوب والمستهدف. ويبقى السبيل الأوحد هو اللجوء إلى القطاع الخاص، لمن استطاع إليه سبيلا. أكثر من 80 % من التجهيزات الطبية من قاعات عمليات ومختبرات وتصوير حديث هي بيد القطاع الخاص. ولهذه الأسباب تظل الأسرة هي الممول الأكبر للإنفاق على الصحة بنسبة تتعدى 50% من إجمالي النفقات الصحية مقارنة مع ما يقل عن 20 % مؤسسات التأمين الإجباري عن المرض . ويظل التمويل الميزانياتي محدودا. نعيش فترة تمثل نقلة في مجال التغطية الصحية، ويظل الفرق شاسعا بين الحصول على بطاقة التغطية الصحية، كيفما كان نوعها، في إطار التغطية الاجبارية عن المرض وإمكانية الولوج إلى العلاجات.
ولأن ضعف الدخل لدى كثير من الفئات الإجتماعية يشكل حاجزا أمام إختيار نوعية العلاج، فلقد أصبح من اللازم، احداث ثورة لتمكين المواطنين من الولوج العادل للخدمات الصحية. كان امسنا، كما هو يومنا، يسمح لمن له المال والجاه وشيء من السلطة وشبكة من العلاقات للإفلات من آثار أزمة صحية تأخر وصولها إلى مرحلة التشخيص والعلاج. وزادت الفوارق الاجتماعية اتساعا بعد أن أصبحت شركات التأمين مؤثرة في مجال التأمين التكميلي عن المرض. كثير من المؤسسات العمومية كالوزارات والمؤسسات العمومية تغطي تكلفة هذه التغطية التكميلية. أما المتبقي من المواطنين فلا تأمينات تكميليا لديهم. وهذا الوضع يمكن أن يؤثر سلبا النظام التعاضدي المغربي الذي كان ولا زال هو الملجأ للكثير من ذوي الدخل المحدود. ويجب التذكير أن التغطية الإجبارية عن المرض لا تغطي في واقع الأمر سوى أقل من تكلفة العلاج. وترجع هذه النسبة الضعيفة إلى تطبيق تسعيرة وطنية مرجعية لا علاقة بالأسعار المطبقة على أرض الواقع. كما يرجع كذلك إلى ممارسات لا زالت سارية في كثير من المصحات الخاصة شبه العمومية.
وتتلخص هذه الممارسات في “المال الأسود” أي كل أداء نقدا دون فاتورة وضرورة وضع شيك للضمان ولو في حال حصول المصحة أو المستشفى على موافقة الصناديق المسيرة للتأمين الإجباري عن المرض كالصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وسيظل المواطن ذو الدخل المحدود رهينة بين من يمتلكون مفاتيح الحواجز ضد الولوج العادل للخدمات الصحية. كثير من المسؤولين لا يعلمون أن الصيدلي ليس له الحق في استبدال الأدوية للتخفيف عن المواطن العادي. ويجب أن نعلم أن الصيدلي الأمريكي له الحق في استبدال الدواء الأصلي بالدواء الجنيس الأرخص سعرا. ويجب أن نعلم أيضا أن إسترجاع مصاريف الأدوية في بلادنا يتم، في الأساس، بالاستناد على سعر الدواء الجنيس. ويجب العلم أيضا أن جزءا كبيرا من الأطباء لا يثقون في الدواء الجنيس ولا يدخلون في وصفاتهم سوى الدواء الأصلي. ولهذا كثر الحديث عن دور المؤتمرات الطبية في استقطاب المختبرات العالمية لكثير من الأطباء الذين لا “يثقون في الدواء الجنيس”.
يعيش المغرب نقلة نوعية في مجال التغطية الاجتماعية وقد وضعت خطة لتنزيل هذه التغطية ماليا ومؤسساتيا. ويظل الأهم والأول في تصنيف الأولويات هو الوصول إلى حلول حقيقية للولوج إلى العلاجات بالنسبة للجميع. ولهذا يخيب “الظن في المقبل” حين يتم تحديد موعد بعيد، وقريب من الهلاك، لمريض من طرف مستشفى عمومي ممول بالضرائب.
سيتزامن هذا الموعد مع إنتهاء مباريات كأس أفريقيا سنة 2026. وسيكون هذا المريض قد استمع إلى فريد الأطرش وخاطب المستشفى مترنما “عش انت إني قد مت بعدك” وربما قبلك.
موعد في مستشفى.. ربما بعد الموت
بواسطة إدريس الأندلسي