الحوار مواجهة بالكلمات والحجج، بين ناس متحضرين، يملكون روحا رياضية لتقبل أفكار الآخرين من أجل تطوير النقاش، والغوص عميقا في القضايا التي تهم الرأي العام. والسجال لعب على الأعصاب، و”تشيار” بالجمل، وتهديد بالأيدي، ومقاطعة واستفزاز. المجادل لا يسمع إلا نفسه، بخلاف المحاور، الذي يتفاعل مع الآخرين ويمكن أن يبدل رأيه بناء على تطور النقاش ورجاحة الحجج، لأن الحوار يفترض النزاهة الفكرية، والسجال يتطلب سوء النية، التي نملك منها احتياطيا هائلا في العالم العربي…
يقتضي الحوار أن تبذل جهدا كي تتعرف على الآخر وتتفهم قناعاته وأفكاره، والديمقراطية في النهاية هي الحوار بين الفرقاء وأصحاب الرأي المختلف.
عندما يتغلّب السجال على الحوار، اعلم أنك في المستنقع مع الغوغاء.
وتقنيات السجال معروفة من أيام «السفسطائيين» الإغريق و”المتكلمين” العرب، حتى إن الفيلسوف الألماني أرتير شوبنهاور ألف كتابا عنوانه «فن أن تكون دائما على صواب»، تلاقي نسخته الفرنسية نجاحا كبيرا هذه الأيام، في طبعة الجيب الرخيصة، بعد أن نزل الحوار السياسي في بلد فولتير إلى الحضيض، وبات النواب “يشنقون” على بعضهم البعض في البرلمان!
نحن تعلمنا السجال في الجامعة. نزلنا إلى الساحة ووجدنا «الرفاق» دائما على حق، وعندما وصل «الإخوان» صاروا بدورهم على حق. كانوا يتحدثون ساعات طويلة في الحلقيات، حول كل المواضيع وعن كل الدول، من فلسطين إلى العراق مرورا بكوبا وأفغانستان والسودان والشيشان، والملكية والجمهورية والاشتراكية والليبرالية، مع شارات النصر والكوفيات ونقطة نظام، و”ثورة ثورة كالبركان” أو “دستورنا القرآن”. ومن أشهر تقنيات السجال في الحلقيات، رفع السبابة و”تخراج” العينين وضرب كف بكف، والاستشهاد بالفلاسفة والمنظرين مع تأكيد الصفحة التي أخذت منها الجملة: «كما قال ماركس في رأس المال الصفحة 83»، و«كما قال سيد قطب في معالم على الطريق الصفحة 154»… وفتش أنت عن الكتاب والصفحة إن استطعت!
لكن الانتصار في الحلقية لم تكن له علاقة بماركس أو قطب، بل بفئة من الطلاب تبايع «المتكلم» وتنتشر على طول الحلقية لتؤيد كل ما يقوله، وتظل على أهبة الاستعداد لإخراس كل من يقاطعه، هؤلاء كنا نسميهم «ولولا رهطك لرجمناك»، استلهاما من الآية الكريمة، التي تروي قصة النبي شعيب وكيف جاء صحبة مجموعة من أتباعه يدعو بني إسرائيل إلى تصديقه فقالوا له بكثير من الاحتقار ما معناه: «سير بدل ساعة باخرى»… «لولا رهطك لرجمناك»، أي لو لم نخف من مواجهة أتباعك لكان لنا معك شأن آخر.
كانت الجامعة، مثل العالم العربي، مقسمة إلى معسكرين، وكان الصراع بين “القاعديين” و”الإسلاميين” دخل فصوله الأكثر دموية. كلا الطرفين لا يرى غير العنف وسيلة لطرد خصمه بعيدا عن “الحرم الجامعي”، كما كنا نسمي الكلية بكثير من التقديس. المعسكران وجهان لعملة واحدة: الأول يدعو إلى “الجهاد ضد أعداء الإسلام”، والثاني ينادي ب”العنف الثوري ضد الظلاميين”….
كان رفاق النهج القاعدي ينقسمون إلى فصائل بلا حصر، كلّ يوم يولد تيار جديد: الكرّاس، البرنامج المرحلي، الممانعون، السيخ، لْگلاگلية… لا أعرف أين كانوا يعثرون على هذه التسميات، لكنني أتذكر أنهم كانوا يتناقشون ويتجادلون بعنف حول أبسط المواضيع، كأنهم أعداء، ويطلقون على بقية التيارات بازدراء: “الفصائل الإصلاحية”، لأنها تريد إصلاح “نظام رجعي” مكانه الطبيعي “مزبلة التاريخ”، تلك “المزبلة” الكبيرة، التي كانوا يرمون فيها كل يوم عددا من الأنظمة والأشخاص والمبادئ والقيم، بغير قليل من الخفة والنزق. كانت أحلام “القاعديين” مضرجة بالدماء، لا يقنعون بأقل من “إسقاط النظام” وتدمير “الرأسمالية” و”الإمبريالية” و”الكمبرادور” و”الرجعيين” و”الظلاميين” عن طريق “العنف الثوري”، كي يرفعوا في النهاية راية رسموا عليها “منجلا ومطرقة”، ويشيدوا على أنقاض الجميع تلك اليوتوبيا الرهيبة: “ديكتاتورية البروليتاريا”.
العالم كان بالأبيض والأسود. الحلقيات طويلة والنقاشات البيزنطية لا تنتهي. ولا تخلو من طرائف.
ذات يوم، احتد النقاش وزعرط رفيق داخل الحلقية مشددا أن لا خيار مع الإسلاميين إلا المواجهة الجسدية، فما كان من أحد الطلاب إلا أن سأله لماذا هرب من المدرج، حين اندلعت معركة بين الرفاق والإخوان قبل أيام… تلعثم الرفيق، لكنه عثر بسرعة على الجواب: “أجل لقد انسحبت كشخص، لكنني بقيت كموقف!”، فما كان من الطالب إلا أن سأله: “ورجعتي جبتي الموقف ديالك ولا خليتيه تما مسكين! “
«فن أن تكون دائما على صواب»!
بواسطة جمال بودومة