ما الذي فعله بشير الراشدي، رئيس هيئة النزاهة والوقاية من الرشوة، ليصبح رأسه مطلوبًا من طرف الحكومة؟ الرجل قال فقط ما يعرفه جميع المغاربة، وما تنشره هيئات دولية ووطنية من أن الفساد بالمغرب أينع وصارت له رؤوس كثيرة.
ربما ما جلب على الراشدي كل هذا الغضب هو جوابه الصريح على سؤال نيشان بأنه راسل مرارًا وتكرارًا رئيس الحكومة، السي أخنوش، لعقد اجتماع اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد التي لم تنعقد منذ سنوات، لكن أخنوش تجاهل طرق الراشدي على جدران الخزان.
اليوم، وبعد أن شرب فتى أخنوش المدلل، السي بايتاس، حليب السباع وهاجم هيئة النزاهة ورئيسها، جاء الدور على وزير العدل عبد اللطيف وهبي الذي “كشكش” في جلسة مجلس النواب وصرخ في وجهنا جميعًا: “لي كيقول كاين الفساد يوريه لينا”.
والواقع أن هذا الوزير، الذي يبقى آخر علامات موت السياسة بالمغرب، عليه أن يُطبق فمه بإحكام، وأن يخجل من إنكاره للفساد الذي منعه من شم “ريحة البيضا” التي “مرمدت” حزبه وصنعت ثروات ومناصب عدد من قياديه، والعهدة على إسكوبار وتحقيقات الفرقة الوطنية.
لا ندري فعلاً من جاء بهذا الرجل للحكومة، ومن اقترحته لتولي حقيبة لها حساسية بالغة في مصائر الشعوب، في ظل التهريج الذي يمارسه، و”تعواج الفم” الذي يعتقد بأنه كفيل بإقناع المغاربة بوجاهة وحصافة وزير اجتهد في مراكمة فضيحة تلو الأخرى.
يقول المثل المغربي “لي فيه الفز كيقفز”، ولهذا السبب بالتحديد قد نلتمس العذر لهذا الوزير وغيره في حالة الهيستيريا التي تركبهم في كل مرة يثار فيها اسم الفساد، على عهد حكومة قامت بقتل مشروع تجريم الإثراء غير المشروع بدم بارد.
لقد هاجم وهبي رئيس هيئة النزاهة بلغة خالية من اللباقة، وقال إنه يدعي “الطهرانية”، وهو أمر يشهد به الجميع، كما قال إنه يتقمص دور المسيح المنقذ، وغيرها من التعابير التي خلطها وهبي بجملة “فين هي هاد 50 مليار درهم”.
ولأن الساسة يتعمدون خيانة ذاكرتهم، فذلك الرقم صدر في تقارير دولية، ولم يكن لرئيس الحكومة السابق، سعد الدين العثماني، أي حرج في التعامل معه، بعد أن أكد أن الفساد يضيّع على المغرب سنويا إمكانية بناء 150 مستشفى حديث ومجهز. وقال إن “محاربة الفساد ليست ظاهرة بسيطة، لأنه ينخر في المجتمع والاقتصاد، ويبطل الجهود والخدمات المقدمة للمواطنين”.
العثماني، الذي يبدو اليوم أرحم بكثير من هؤلاء “الرهوط” الذين يتسلون باستفزاز شعب بأكمله، قال إن “محاربة الفساد لن تكون بالوسائل الأمنية والقانونية فقط، لكن بعدد من الإجراءات، منها الوقائية وأيضًا إغلاق منافذ الفساد”. وأكد أن الفساد يلتهم ما بين 5 إلى 7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما قاله الراشدي الذي يسعى البعض اليوم لإلحاقه بالكراوي بعد موقفه من “الشفرة” العلنية التي تمارسها شركات المحروقات.
لا ندري فعلاً ما الذي جعل وزير العدل ينزعج من كثرة الحديث عن الفساد والمفسدين بالمغرب، ويدخل ذلك في خانة الكلام الخطير، رغم أن أعلى سلطة في البلاد دعت لوضع محاربة هذه الآفة في صميم الأولويات، باعتبارها “أكبر عقبة تعيق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية”.
لقد سبق لوزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، أن نبه بدوره البرلمانيين إلى أن الإفراط في استعمال كلمة الفساد يعطي الانطباع بأن المغرب تحول إلى جنة وملاذ للفاسدين، وقال إن ذلك سيجعل المغاربة يعتقدون بأن السياسيين والوزراء مجرد مجموعة من الفاسدين، قبل أن يضع حبة كرز فوق كلامه بأن قال إن عدد الفاسدين قليل، وأن من بين قبيلة المفسدين من وُضع في السجن، ومن تم توقيفه.
والواقع أن من يسمع كلام وزير العدل اليوم حول الفساد لا يملك إلا أن يكذب التقارير الوطنية التي تنشر الغسيل القذر للمؤسسات والقطاعات الحكومية، وينكر مضمون التقارير الدولية التي تضعنا في مراتب غير مشرفة إطلاقًا.
الغريب أن انزعاج وزير العدل من طنين كلمة الفساد يعود بنا للتصريحات التي حذر فيها عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، من آفة الفساد التي قال إنها “تعيق مسار التنمية وتضعف المؤسسات وتزعزع الثقة بين الفاعلين الاجتماعيين وتهدد الاقتصاد والسلم الاجتماعي”.
حينها لم نسمع من يهاجم الجواهري في مقابل هذه الحملة المسعورة على رئيس هيئة النزاهة، الذي صار المطلوب الأول من طرف أخنوش بعد أن تخلص من صداع لحليمي والشامي.
الفساد الكبير الذي نغرق فيه حقيقة لا يمكن حجبها، وهو فساد متغول وراسخ، ويحرم ملايين المغاربة من حقوقهم، ويضيع على أجيال بأكملها فرص التنمية، ويدخلنا في متاهات نحن في غنى عنها، وهو ما يتعين الانزعاج منه حقًا.