“كل شيء مركب، معقد، مصنوع.. كل شيء مُمَسْرَح.. لا شيء مباشر أو صريح، بمعنى آخر كل شيء فن.. وهو في هذه الحال فن إطالة التشويق، والأفضل: فن البقاء أطول فترة ممكنة في حالة إثارة!” ميلان كونديرا
كان معلما مشّاء ينشر أضواء فكره على محيطه ومريديه بتواضع الكبار، ظلّت أسراره في قلب انفتاحه، قدم كل شيء لصناعة سينمائية بملح الوطن وهويته، في ذات الآن كان منفتحا على تلاقح التجارب الكونية، وبه سيلتصق بعدُ الدفاع عن ثقافة سينمائية موزعة على المغاربة بالتساوي.. كان ملمحا ثقافيا وسم بحضوره مساحة كبرى من الزمن السينمائي والإعلامي المغربي، وبرحيله فقدنا شجرة باسقة كانت تظللنا مثل غابة… ويا قلبنا الجماعي كيف تولم للحظة طريق قدرتنا على رسم مرثية تليق بتعدد أضلاع هذه القامة الشامخة.
نحتاج إلى زمن أطول لنخرج من صدمة الحزن الذي خلفه رحيل نور الدين الصايل، ونلملم ما تركه فينا موته المفاجئ.. ما أمرّ الفقد! فالصايل معلم كبير، ومثقف مستنير، وإنسان حلو المعاشرة، رجل فكر وفنان وناقد ومبدع.. لذلك سيظل وشما على جسد السينما الوطنية، ورغم أن اللغة لم تعد تطابق العالم الذي نُعبر بها عنه خاصة في شخص استثنائي مثل الصايل، فإننا سنحاول سرد سيرة وجع وفقد.
مؤسس الثقافة السنيمائية بالمغرب
حين نكف أن نكون على ما نحن عليه، فإننا نغدو شيئا آخر، أمواتا لا نصلح سوى للرثاء ثم يعود الكون لدورته العادية، لكن في حال نور الدين الصايل حتى بعد رحيله سيظل يملأ سماءنا، ليس لأنه فقط مثل جلجامش البطل الأسطوري الذي خاض مغامرة البحث عن نبتة الخلود، ولكنه بالذات مثل مكتشف مغامر قادنا كمغاربة إلى قارة جديدة اسمها: فردوس السينما.. ويحق له أن يردد مع الشاعر بودلير: “يلوح لي أنني سأظل على الدوام سعيدا في المكان الذي لست موجودا فيه”.
ولد في طنجة عام 1948 قبل أن ينتقل في بداية الاستقلال إلى الرباط ليكمل تعليمه الجامعي في شعبة الفلسفة، لم تستهوه السياسة التي كانت تصلي بنارها الجامعات المغربية في نهاية الستينيات، فغادر كلية الآداب بعد حصوله على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، ليصبح مدرسا في مدرسة مولاي يوسف بالرباط التي كانت مصنعا حقيقيا لجيل من الرواد، وفي عام 1975 سيصبح مفتشا للتعليم الثانوي في مادة الفلسفة التي عشقها وأسلست له القياد..
سمح له اتساع الوقت، للتفرغ لعشقه الأول: السينما، حيث أسس الجامعة الوطنية لنوادي السينما، التي كانت مختبرا حقيقيا لمختلف التجاذبات الإيديولوجية وواجهة للاستقطاب السياسي في مغرب يغلي مثل المرجل، وتمور أعماقه بتيارات متلاطمة اختلفت حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه الدولة الوطنية ما بعد 20 سنة من الاستقلال. في الأندية السينمائية التي شغل نور الدين الصايل مهمة رئيس جامعتها الوطنية لعقد من الزمن ما بين 1973 و1983، الفترة الذهبية لجيل لا زال يذكر بحماس وبالكثير من الحسرة لحظة انتشار الثقافة السينمائية بالمغرب التي انطبعت بثقل المحمولات والرموز والتطلعات لمرحلة دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر.
وهو لم يصل الثلاثين بعد كان يتقد حماسا، وبدا أنه صاحب مشروع ثقافي في تطوير الثقافة البصرية في مجتمع شفوي يعتمد على الكلام الصادر عن أفواه الرجال والعلم في الصدور لا في السطور، وخذ الحكمة من أفواه الحمقى والأطفال، لقد أعطى للمجال البصري فسحة للنظر والرؤيا البعيدة لدى المغاربة، وما تخلى عن هذه القناعات المرحة باستعارة تعبير نيتشه، حتى رحيله.
دفعة قوية للتلفزيون المغربي
من حسنات الراحل الصايل التي لا تمّحي تأسيسه مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة عام 1977، حيث وعى قبل السياسيين، أن السينما وسيلة للانفتاح ورسالة نبيلة للتعايش، وملمح هوية، وأن عبرها يمكن أن نقر أنه يوجد في نهرها ما لا يوجد في قلب بحر السياسة، الذي قد يعج بالكثير من الضجيج لكن بلا طحين أحيانا كثيرة!
سيستقطب التلفزيون المغربي نور الدين الصايل، الشاب الممتلئ حيوية وطموحا، حيث عُيّن في مارس 1984 مديرا للبرامج بالتلفزة الوطنية، ثم بعدها مستشارا لدى القناة الثانية.. لكن طموح الراحل بلا حدود، لذلك سيرحل إلى فرنسا حيث عُين مدير مبيعات البرامج في القناة الفرنسية “كنال بلوس” وستتم ترقيته عام 1999 إلى مدير عام مكلف بالبرامج والبث في ذات القناة.. كل شيء بالنسبة إليه كان فنّا، مركبا معقدا، ممثلا.. يستلزم فن إطالة الإثارة والتشويق، ولعل حياته كانت هكذا، وقد تكشف يوما زوجته نادية لاركيط أو بعض من خلانه.. هذا الجانب الفني في حياته الحميمية والمهنية التي كان يؤمن أن له فيها دورا يؤديه، وأن يكون بطلا حيث يشخص في الآن ذاته أدوارا كثيرة.. دون الحاجة إلى المرور عبر السجاد الأحمر، لأنه كان خالق الفرجة بامتياز، وصانع البهجة السينمائية.. أي مبدع فن البقاء أطول فترة ممكنة في حالة إثارة. لقد كان التلفزيون حصانه الأسطوري لتحقيق مدى أوسع لإشاعة الثقافة البصرية، السينمائية أساسا، حصان “البراق” الذي رفعه عاليا نحو سماء بعيدة، كان وحده يؤثث نجومها وقمرها بجلال فنّي لا يُحدّ.
لكن المغرب ظل يسكنه كصورة حية وكوشم أبدي، لذلك سيعود إليه مع إطلالة العهد الجديد، التي سيفتح فيها المجال لمجموعة من أصدقاء الدرب، عبد القادر الشاوي في قراءة الكتب الجديدة وصلاح الوديع في لحظة شعر وغيرهما، كان سندا كبيرا للراحلة مليكة ملاك في برنامجها “في الواجهة” ولعبد الصمد بن الشريف ولزمرة من الوجوه التي وشمت القناة الثانية ببهاء جليل.. لكن التواجد في قلب قطاع حساس تتشابك في دواليب تسييره الخطوط والخيوط الكهربائية العارية في أغلب الأحيان، ستسحب البساط من قدميه عام 2003، وسيضاف اسم تعيينه على رأس المركز السينمائي المغربي في ذات السنة بقلم الرصاص بوشم شخصية وازنة يومها، في آخر ساعة.. وهو المنصب الذي شغله حتى عام 2014.
عاش كبيرا ومات كبيرا
يقال إن الأشياء الصغرى التي تحدث في مساحة مغلقة، مثل الكلمة التي نسمعها أو ندونها خارج مساحة الضوء، لكن يصبح لها معنى مغاير له صوت ذوي المدافع حين تنتشر بين الناس، في حال نور الدين الصايل لم يكن يأبه بالصدى الذي يمكن أن تخلفه أعماله، ولا بالأثر الذي يكون لصوت المفرقعات أو الشهب الاصطناعية في السماء، كتوما، قليل الكلمة، هادئا بضحكته المتميزة مثل حفيف الأشجار، وهو في قلب الإعلام والسينما كان يعي مكر الصور وخطورة الأضواء، لذلك كان يحب الظل وهو في قلب الحدث.
كان يشم مسار حياته بتواضع، بجسده النحيل وشعره الحريري ولكنته الشمالية التي ظلت ملتصقة به حتى وهو يتكلم بفرنسية طليقة، كان دوما لا يأبه بامتلاء السينما بالجمهور، في مدار خلوده كان يسكن، وكلما ضاقت به الأرض، كان يلجأ إلى مطعم الحديقة بالمحمدية وحيدا أو بالصحبة حيث كان ينتشي بكامل الصحو، هناك حيث كنا نلتقي كشلة صغيرة اشتركت في الحلم والعشق.. كان لا يرحل حتى يترك وراءه – مع البقشيش الذي يمنحه للنادل- آهاته وأوجاعه، أما تلك الأحقاد الصغرى التي كانت تطعنه من الخلف، فكان يكفي أن ينفض معطفه الذي يسلمه إياه النادل، حتى يتركها مع ما تساقط من شعر رأسه، خلفه بلا أسى.. لأنه أدمن عمر السقوط، وانحاز إلى روح البراءة الأصيلة التي وقرت قلبه وسكنته إلى الأبد، لذلك لم يبال بتحطم الأشياء والصداقات من حوله التي كانت تخلق بعض الارتباك المبدئي في حواسه، لكنها لم تكن تغوص إلى أبعد مدى في قلبه.
لعله لهذا السبب ترك بصمته الكبيرة لدى من عشقوه ومن كرهوه، من صادقوه بوفاء ومن عادوه بمكر، لقد علمنا كيف نعطي للذاكرة صوتا، وللعين مدى أبعد مما يثيره ضجيج الصوت، لذلك عاش كبيرا ومات بيننا كبيرا، حتى أننا نحس كعشاق للسينما التي استنبتها في تربتنا.. نحن الذين ثابرنا على قراءة مجلة “Cinéma 3” أو أنصتنا بإمعان لحواراته ومحاضراته، أو قرأنا روايته الشائقة “A l’ombre du chromique” التي أصدرها عام 1989، وهو بفرنسا.. أو من خلال وشم الأفلام الخالدة التي كتب سيناريوهاتها وأخرجها محمد عبد الرحمان التازي: “الرحلة الكبرى” عام 1981، “باديس” عام 1989، و”لالة حبي” عام 1996… نحس أنه ما رحل، وأنه اختبأ لحظة كما في لعبة “الغميضة” ليعود إلينا كما سندباد محملا بالهدايا والأماني والرعود، أصحيح أنه لن يعود؟!
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار،
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود، هو لن يعود!
لكنه سيظل قائما بيننا نقتسم معه بفرح الصبية ما حصدناه من فراشات الذاكرة، ونقهقه في وجه الموت، ما مات من خلف شيئا جميلا فينا، إنه أثر السينما ومرح الصورة.